المحاسبة السياسية في الإسلام والجُبن السياسي
والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اما بعد .
إن السياسة في تعريفها اللغوي هي رعاية الشؤون ، وعندما تتعلق هذه السياسة بالحكم وولاية أمور العباد فإن كلمة السياسة يصبح لها مدلول اصطلاحي خاص يعني رعاية شؤون الأمة .
وقد جعل الله تعالى في الشريعة الإسلامية أحكاما شرعية خاصة برعاية شؤون المسلمين وغيرهم ممن يحملون التابعية للدولة الإسلامية.
وجعل الله تعالى لهذا الحكم أركانا وقواعد لا يصح الحكم إلا بها وهي:-
أولا- أن السيادة للشرع لا للأُمة يقول تعالى :-
((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ))
ثانيا – أن السلطان للأمة – وذلك ان نصب الخليفة إنما يكون من الامة ، فالأمة الإسلامية تبايع الخليفة على الحكم ولا يبايع الخليفة المسلمين على حكمهم .
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبيَّ بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» رواه مسلم
ثالثا- وجوب نصب خليفة واحد
فقد روى مسلم عن نافع قال: قال لي عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»
ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو أن الرسول أوجب على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة لخليفة ولم يوجب أن يبايع كل مسلم الخليفة، فالواجب هو وجود بيعة في عنق كل مسلم، أي وجود خليفة يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده. فوجود الخليفة هو الذي يوجد في عنق كل مسلم بيعة سواء بايع بالفعل أم لم يبايع.
رابعا – إعطاء حق التبني للخليفة وحده
فقد ثبت بـإجماع الصـحابة، على أن للخـليفة وحده حق تبني الأحكام، ومن هذا الإجمـاع أُخـذت القـواعد الشـرعية المشـهورة. (أمر الإمام يرفع الخلاف)، (أمر الإمام نافذ، ) (للسلطان أن يُحدث من الأقضية بقدر ما يَحدُث من مشكلات) .
وقد شرع الله تعالى من الأحكام ما يقيم أركان الحكم بالإسلام ويحافظ عليها من التبدل والتغير والزوال ؛ ومن ذلك الاحكام التي تدعوا المسلمين إلى تقويم اعوجاج حكامهم وساستهم وولاة أمورهم ، بالمحاسبة المقترنة بالطاعة في غير معصية . ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصحة أولي الأمر .
قال تعالى :- ﴿{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}﴾ آل عمران 110
وقال صلى الله عليه وسلم :- ” سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله” رواه الحاكم
فمحاسبة من يقوم على أمور المسلمين ورعاية شؤونهم هي محاسبة سياسية وهي عمل سياسي وجب على الأمة أن تقوم به كي تحافظ على الحكم بالإسلام فتمنع الحيد عما أمر الله به قيد شعرة . فتكون الأمة الإسلامية أمة واعية على أمور دينها متنبهة لأمر تطبيق الشريعة الإسلامية في كل أمر من أمور حياتها .
حتى أن الله تعالى جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضا يجب أن تقيمه جماعة من المسلمين كي تتحقق الكفاية فيهم لينوبوا عن الأمة في الدعوة إلى الإسلام وأحكامه عبر مراقبة الحكام ودوام محاسبتهم فقال تعالى :- ﴿ ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾آل عمران 104
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأساس الذي يجب أن يقوم عليه العمل السياسي في الدولة الإسلامية وفي غياب الدولة أيضا بالعمل على إعادة الحكم بما أنزل الله تعالى .
ولذلك فقد كانت المحاسبة السياسية جزءا من حياة المسلمين وذلك تحقيقا لما أمر الله تعالى به وما جاء في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :-
: ” من رأى سلطانا جائرا، مستحلا لحرم الله، حاكما في عباد الله بالإثم والعدوان، ولم يغير عليه بقول أو فعل، كان على الله أن يدخله مدخله “.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ” لا يحقرن أحدكم نفسه، قالوا يا رسول الله، وكيف يحقر احدنا نفسه؟ قال: يرى أن عليه مقالا ثم لا يقول به، فيقول عز وجل يوم القيامة ما منعك أن تقول فيَّ كذا وكذا، فيقول : خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى ..” رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري ،
وقال صلى الله عليه وسلم:” إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تكون العامة تستطيع أن تغيّر على الخاصة، فإذا لم تغيّر العامة على الخاصة، عذّب الله العامة والخاصة” رواه أحمد والطبراني في الكبير.
وقد أدرك الصحابة رضوان لله عليهم أهمية المحاسبة السياسية والعمل السياسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضربوا أروع الأمثلة في محاسبة ولاة الأمور والوقوف على أحوالهم ومتابعة رعايتهم لشؤون أمتهم.
فقد قال الإمام علي رضي الله عنه: ( فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك مني) نهج البلاغة ج2/
وحاسبت امرأ ة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تحديد المهور قائلة: ” يا عمر لم تحدد مالم يحدده الله ورسوله؟ ألم تسمع قوله تعالى { ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا ﴾}؟ النساء20، فرد عمر قائلا:” أخطأ عمر وأصابت امرأة “
نعم هكذا كانت الأمة الإسلامية وهكذا كان رجالها ونساؤها حين أدركوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الدين النصيحة) قلنا لمن؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم
وإن أخطر ما قد تصاب به الأمة الإسلامية من داء قاتل يطيح بدولتها ويذهب بكرامتها وعزتها لهو( الجبن السياسي ) أي أن تصبح الأمة الإسلامية جبانة فيما يتعلق بالمحاسبة المتعلقة برعاية شؤونها ، فإذا فسد أمراؤها لم يجدوا من ينكر عليهم وإذا ظلموا لم يجدوا من يأخذ على أيديهم فيأطرهم على الحق أطرا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :-
((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً أو تقصرنه على الحق قصراً)) [أبو داود والترمذي وابن ماجه.
نعم إن الجبن السياسي وغياب المحاسبة السياسية هو من أهم الأسباب التي أدت إلى ضعف دولة الخلافة العثمانية ومن ثم انهيارها دون أن يقوم من أبناء الأمة من يحمل السلاح في وجه العملاء الذين سلخوا الأمة عن دولتها ، ولم يقم أحد من بعدهم ليحمل السلاح في وجه العميل الخائن اتاتورك حين ألغى دولة الخلافة .
صحيح أن الأمة ما يزال فيها المجاهدون في سبيل الله ممن يقاتلون الكافرين ويدافعون عن أرض المسلمين وهذا مما يدل على الشجاعة التي يتصف بها أبناء الامة الإسلامية ، تلك الشجاعة الناتجة عن العقيدة الإسلامية والإيمان بالله واليوم الآخر وحب الشهادة في سبيل الله تعالى .
ولكن تلك الشجاعة تظهر في قتال الكافرين والذوذ عن بلاد الإسلام ، فبعد إلغاء دولة الخلافة أصبحنا نجد المسلمين يستبسلون في إخراج الكفار المستعمرين من بلادهم فإذا ما خرج المستعمر من بلادهم وسلط على رقابهم حكاما عملاء لا يحكمون بشرع الله تعالى بل ويحافظون على مصالح الكفار في بلاد المسلمين لم نجد بين المسلمين من يقوم لينكر على هؤلاء الحكام ويحاسبهم ويسعى للإطاحة بهم أو لحمل الأمة على نبذهم وعدم طاعتهم .
وقد أصيبت الأمة بالجبن السياسي جراء أحداث وأسباب عديدة تراكمت عليها عبر العصور حتى نسي المسلمون دورهم في تقويم الحاكم وأمره ونهية. فلم نسمع بعد عصر الصحابة والتابعين عمن ينصحون للأمراء ويحاسبونهم إلا قليلُ من العلماء المخلصين الذين هيأهم الله تعالى للأمة الإسلامية فكانوا يكشفون للمسلمين في عهد الدولة الإسلامية ما يجري فيها من تقصير في الحكم بالإسلام ورعاية شؤون المسلمين .
أما بعد انهيار دولة الخلافة فقد هيأ الله تعالى للأمة الإسلامية حزب التحرير الذي أخذ على عاتقه تبني مصالح الامة الإسلامية والعمل على استئناف الحياة الإسلامية بالعمل السياسي .
فكانت أصعب المهمات التي اضطلع بها حزب التحرير هي نشر الوعي بين أفراد الأمة الإسلامية على فرضية العمل السياسي في وقت كانت فيه الأمة لا تعرف من أمر قضاياها المصيرية شيئا ولا تجد بينها من يقول بفرضية العمل السياسي بل إن حكام السوء جعلوا للأمة من علماء السلاطين من يفتون لهم بحرمة السياسة والعمل السياسي بحجة ان السياسة ما هي إلا تدليس وكذب وخداع أو تجدهم يضللون الأمة بما جاء في الشريعة من فرضية إطاعة أولي الامر زورا وبهتانا .
فحين قام حزب التحرير كانت قد قامت بين الامة الإسلامية جماعات وحركات تتخذ الإسلام شعارا ولكن دون الدعوة للحكم أو التدخل بالسياسة فزادت تلك الدعوات من تضليل الأمة عن فرضية المحاسبة السياسية وتغيير ما يفرض عليها من منكرات . وذلك مما رسّخ حالة الجبن السياسي التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية .
فقد كانت الامة الإسلامية إذا ناديت فيها للجهاد ودحر الكافرين وجدت المسلمين يهبون لتلبية نداء الجهاد والقتال في سبيل الله دون تأخر أو إبطاء وذلك لقوة العقيدة الإسلامية التي ظلت حية في نفوسهم رغم ما مرت به الأمة من تخلف وجهل بالإسلام .فإذا سمعت الأمة مناديا لخلع الحكام الرويبضات عن أرض المسلمين وإقامة الحكم بما أنزل الله لم تكن تجد من يقوم لإنكار المنكر مع أن المحاسبة السياسية والعمل السياسي قد ثبت في الشريعة الإسلامية بالقرآن والسنة وإجماع الصحابة كما ثبت الجهاد وقتال المشركين .
ولكن الجبن السياسي كان قد استشرى في الأمة إلى درجة جعلت حزب التحرير حين قيامه يضطلع بإزالة العقبات التي تضعها الامة أمامه في سبيل إقامة دولة الخلافة قبل العقبات التي يواجهها الحزب من الحكومات الكافرة ومن خلفهم من الدول الاستعمارية التي لا تريد ان يقوم للإسلام قائمة .فكان عمل حزب التحرير بين أفراد الامة من أصعب الأعمال والمهمات لأنه عمل على تغيير المجتمعات ونقلها من حال إلى حال، ونشر الوعي العام على أفكار الإسلام وعلى قضايا الامة المصيرية وإخراج الامة من حالة الجبن السياسي الذي تجذّر فيها على مر السنين وزرع الثقة بوعد الله بنصره في قلوب المسلمين لحملهم على التغيير ونصرة الحزب لاقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة .
ولذلك فقد كان على الامة الإسلامية أن تدرك أولا ان المحاسبة السياسية ليست مجرد حق أو امتياز يتمتع به أفرادها بل هي واجب وفرض، عليهم أن يضطلعوا بأعبائه ويتشمروا لإقامته بالعمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
يقول الإمام الغزالي رحمه الله (( فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد وقد كان الذي خفنا أن يكون فإنا لله وإنا إليه راجعون إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه وانمحق بالكلية حقيقته ورسمه فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق واسترسل الناس في إتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الثلمة إما متكفلاً بعملها أو متقلداً لتنفيذها مجدداً لهذه السنة الدائرة ناهضاً بأعبائها ومتشمراً في إحيائها كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ومستبداً بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها))نسأل الله تعالى أن نكون من العاملين المخلصين لإقامة دولته ورفع رايته وإحياء سنة نبيه . وأن نكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه . اللهم آمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته