خبر وتعليق القومية تفكك الاتحاد الأوروبي مثلما فككت المسلمين من قبل
بعد أن أنشئ الاتحاد الأوروبي ليحاول منافسة الهيمنة الأميركية على العالم وهيمنت عليه النخب الأوروبية، ها هو الآن يتأرجح للسقوط في هاوية التفكك. فقد حصلت ثلاثة أحداث في الآونة الأخيرة أظهرت تعارضها مع قومية الاتحاد، مما دفع بالاتحاد إلى الوصول إلى تلك الحافة.
أ- فإخفاق أوروبا في الاستجابة المناسبة للتعامل مع الأزمة الرماد البركاني الذي أعاق لأيام حركة الطائرات في جميع أنحاء القارة، والذي عمق من حجم الشرخ بين البلدان الأوروبية، حين تخلت الحكومات الوطنية عن توجيهات الاتحاد الأوروبي وانصرفت لإنقاذ شركات الطيران الجشعة، في موقف يشابه موقف الاتحاد الذي تردد في التحرك من أجل إنقاذ اليونان وإنقاذ اليورو.
ب- وإلى أن تمكن زعماء أوروبا من حشد ما يكفي من القوة لاحتواء غضب الرأي العام، وإقرار حزمة المساعدات لليونان، تمكنت أسواق المال بمساعدة النسور الأمريكية (صناديق التحوط ووكالات التصنيف) من افتراس البلدان الضعيفة (البرتغال وايرلندا واليونان واسبانيا)، وتُركت البرتغال واسبانيا لتواجه غضب المضاربين. ولكن ذلك لم يكن نهاية الأزمة أو الحد الأدنى لها، كما كان يأمل بعض المراقبين، وكأن ذلك لم يكن سيئاً بما فيه الكفاية، ج- فأنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، تعاني من انتكاسة في الانتخابات الإقليمية، ما دفعها إلى اتخاذ خطوة غير معتادة حظرت فيها البيع على المكشوف، والذي بدوره فاقم من المأزق في أوروبا. وقد كانت هذه الخطوة أحادية الجانب مما أذهل بقية دول أوروبا، وكشفت عن انقسامات عميقة سببها القومية التي تساهم في الإسراع من تآكل السلطة في قلب الاتحاد الأوروبي. وقد ظهر هذا جلياً في مؤتمر صحافي عقده الرئيس الأوروبي، هيرمان فان رومبوي، على عجلٍ، لرأب التصدعات التي تسود القارة الأوروبية، بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية. فسارت دول الاتحاد وراء المشاعر التي أعربت عنها شعوبها.
يمكن أن نخلص من الأزمة التي تصيب الاتحاد الأوربي بملاحظات:
الاتحاد الأوروبي منهك اجتماعياً واقتصادياً، وهو في طريقه إلى الفشل وسوف يواجه انهياره في نهاية المطاف، وانتصار الدول لقومياتها المتعددة على حساب الاتحاد أمر بارز عند الجماهير الأوروبية. وكانت تجربة إنشاء الاتحاد الأوروبي محاولة جريئة من جانب بعض الدول الأوروبية لوضع قرون من الانقسام والحرب جانبا. ولكن بعد 40 عاماً من محاولة خلق مكانة للدولة الحديثة، فإنّ الاتحاد الأوروبي قد تفكك إلى مجموعة من الدول، ما قبل الدول الحديثة (الدول القومية)، حيث الدول القوية مثل انجلترا وفرنسا وألمانيا على خلاف بشأن مستقبل أوروبا. وقد كان ذلك متوقعا من قبل، فقد شهدت القارة الأوروبية اختلافات ثقافية وطائفيه دينية وتنافساً شديداً بين الدول القوية فيها. كما أنّ التاريخ الأوروبي يظهر أنّ هناك انعدام في الدوافع التي من شأنها توحيد أوروبا، اللهم التهديدات الخارجية. ففي القرن السابع عشر ومع وصول الجيش العثماني إلى أبواب فيينا، تحفزت الدول الأوروبية لفترة وجيزة فوضعت خلافاتها جانباً على أن تستأنفها في وقت لاحق.
وفي القرن العشرين وبسبب تهديدات الاتحاد السوفيتي، ولاحقاً تهديدات الهيمنة الأمريكية العالمية، أُجبرت أوروبا على بلورة شكل من أشكال الاتحاد. ففي أكثر الأحيان كان تكاتف الدول الأوروبية أمر مؤقت ويُستخدم من قبل البعض كفترة نقاهة بعد تعرض أوروبا لويلات الحروب. ولكن بمجرد أن يضعف التهديد الخارجي – وفي هذه الحالة ضعف أميركا في العالم- فإنّ أوروبا تعود إلى حالة الانقسام.
وفي المقابل فإنّ القومية التي تعمل على تدمير النسيج الاجتماعي للاتحاد الأوروبي تتراجع في كثير من بلدان العالم الإسلامي. فإنّ مفهوم الأمة اليوم يطغى على مفهوم القومية، وأصبح مفهوم الأمة الواحدة بمثابة القوة التي توحد المسلمين في جميع أنحاء العالم. فالمسلمون من المغرب إلى اندونيسيا سرعان ما اكتشفوا بأنّ لديهم الكثير من القواسم المشتركة ضمن الرؤية الإسلامية وبعيداً عن هوياتهم الوطنية التي حددتها الحدود المصطنعة. فمحنة المسلمين في فلسطين والشيشان وكشمير والعراق وأفغانستان مثلاَ لم يعد يُنظر إليها على أنّها مشاكل داخلية، بل أصبحت تعتبر عند المسلمين من المشاكل الإسلامية التي يجب أن يكون حلها من الإسلام.
وعلاوة على ذلك، فإنّ فكرة الدولة القومية قد بات يُنظر إليها اليوم على أنّها دخيلة على المسلمين في بلدان العالم الإسلامي. فلم يكن لها وجود في التاريخ الإسلامي، كما أنّها ليست من نتاج الفقه الإسلامي، بل هي على النقيض منه. فهي فكرة أُجبر المسلمون عليها من قبل القوى الغربية لمنع إعادة إقامة الخلافة. ولهذا فإنّ جموع المسلمين لم يعطوا ولاءهم يوماً لهذه الدول المصطنعة، مما اضطر هذه الدول إلى حكمهم بالحديد والنار. وما هي الآن إلا مسألة وقت قبل إقامة الخلافة العالمية على أطلال هذه الأنظمة القمعية.
إنّ حكام العالم الإسلامي ليسوا عميان عن هذه الحقائق، بل هم معارضون لهذا المشروع. فهؤلاء الحكام يعتقدون بأنّ المسلمين لا يمكن لهم أن يعودوا متحدين، وأنّ الخلافة لا تعدو جزءاً من الماضي.
ومن المفارقات فقد أصبحت الدول القومية التي تم تصنيعها في العالم الإسلامي لمحو الوحدة السياسية للمسلمين من مقومات التغيير. حيث دفع ضعف المسلمين في أنحاء العالم إلى تجاهل أوروبا وأمريكا كدول نموذجية، وتضاعفت الجهود لإعادة إقامة الخلافة.
عابد مصطفى