إضاءات على تاريخ الدولة الإسلامية 01 – سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ج1
يتعرض المسلمون في هذا العصر لهجمة فكرية وعسكرية وسياسية شرسة، وقد سخر لها الكافر المستعمر كل ما لديه من قوى مادية وفكرية وعملاء ومضبوعين، للإجهاز على هذا الدين، وهذه الأمة الإسلامية، ظنا منه أنه سيمحو هذا الدين، ويقضي على هذه الأمة ولئن صادف الكافر المستعمر بعض النجاح في هجمته الفكرية في القرنين الماضيين، ولكنه وقد بان عوار حضارته، وبان إفلاسها، وأصبح نظامه الرأسمالي العفن محلاً للنقمة عليه، حتى في عقر داره لما بان له كل ذلك فقد صوابه، فجيش جيوشه، وشن هجمة عسكرية شرسة، لم تعرف البشرية لها مثيلاً في وحشيتها وحقدها، إدراكاً منه أن نظامه العفن سيتهاوى، ليحل محله نظام الإسلام الذي بإمكانه إذا حُمل حملا صادقا أن يمحق الكفر وأهله، وأن ينشر العدل والخير في كافة أنحاء المعمورة، في زمن قصير قياسي، وقد حدث هذا يوم أن حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، إذ محقوا شرك العرب وباطل فارس والروم في زمن قياسي، وأكمل أحفادهم الدور فحملوا الإسلام ليسود البشرية اثني عشر قرنا.
أيها السادة: إن المسلمين اليوم ولله الحمد والمنة بدأوا يتلمسون طريق فلاحهم وفلاح البشرية، ألا وهو حمل هذا الدين كما حمله أسلافهم فقام حملة الدعوة يدعون الأمة، يدعون الناس أنْ يا أمة الإسلام، يا أيها الناس هبوا معنا هبة رجل واحد لوضع الأمور في نصابها، لوضع نظام الإسلام في معترك الحياة، هيا إلى العمل لاستئناف الحياة الإسلامية، لإقامة دولة الخلافة، هلم إلى تحقيق وعد الله لكم بالنصر والتمكين، بل هيا إلى جنة عرضها السموات والأرض، ألم تسمعوا نداء ربكم بقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55).ألم تقرأوا في كتاب ربكم قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ )(لأنفال: من الآية36) ألم تقرأوا قوله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف:8-9) .
فالله سبحانه وتعالى تكفل لنا بالنصر والتمكين، وهيمنة الدين الإسلامي على الأديان والأفكار الأخرى، ومهما تكالبت قوى الشر على المسلمين فلن يتمكنوا من القضاء عليهم، ولن يتمكنوا من القضاء على هذا الدين، اسمعوا قوله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (آل عمران:111) وعليه فلنعد إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وإلى تاريخ المسلمين، نسلط الضوء على بعض جوانب تاريخنا المشرق، ولن ننهج السرد التاريخي لهذه الأحداث فليس هذا قصدنا ومكانه غير هذا المكان وإنما هدفنا إعادة ثقة شباب الإسلام بدينهم وأنه وحده الذي فيه عزهم، وليعلم شباب الإسلام أنه كان لهم تاريخ مجيد، وماض تليد وأنهم إنما هم أحفاد الأوس والخزرج وأحفاد المهاجرين الذين ضربوا بمؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم أعظم أمثلة على الإيثار في تاريخ البشرية كلها ألسنا يا شباب الإسلام أحفاد جرحى اليرموك وإخوانهم الذي طلب الجريح الأول شربة ماء، فقدمها له أحد المسلمين فسمع جريحا آخر يطلب ماء فأمر الساقي بإرواء الجريح الثاني، فسمع الجريح الثاني جريحا آخر يطلب ماء فأمر الساقي بإروائه فرفض، وأمره بالرجوع للجريح الأول فوجده قد أستشهد ثم ذهب إلى الجريح الثاني فوجده قد استشهد ثم ذهب إلى الجريح الثالث فوجده قد استشهد، يا الله يا الله أية أمة لها هذا التاريخ أية أمة لها هذا الإيثار! أية أمة لها هذه العظمة إنها امة الإسلام ولا ريب.
يا شباب الإسلام: اعلموا أنكم شهداء على الناس والرسول عليكم شهيد، اعلموا إنكم أحفاد رجال خاضوا أكثر من عشرة ألاف معركة، لإنقاذ الناس من الظلمات إلى النور، لقد قـتلنا شبابنا وأنفقنا أموالنا وبذلنا أقصى جهودنا، لا نبتغي إلا رضوان ربنا لنجعل البشرية تعيش عيشا رغيدا وأمنا أمينا في الدنيا والآخرة فأية عظمة هذه أو أية تضحية هذه! إنها فحسب عظمة هذه الأمة الإسلامية فنحن أيها السادة لسنا كالكفار المستعمرين، الذين ملأوا الأرض جوراً وظلماً وأنانية وأثرة وحقدا، إنهم أعملوا في رقاب الشعوب المستعمرة قتلاً واستغلالاً وإذلالاً وعسفاً، ما تترفع عن فعله الضواري في الغابات.
ولنبدأ بإضاءة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهي ثباته عليه الصلاة والسلام على مبدأ الإسلام واتخاذه إجراء الحياة أوالموت لتحقيق غايته، ورفضه إعطاء الدنية في الدين. فقد كان عليه الصلاة والسلام متحديا سافرا للشرك وأهله، لم يداهن، ولم يداج أحدا، ولم يقبل أية مساومة أو أي إغراء للحيد عن دعوته.
لقد بادأ صلى الله عليه وسلم قريشاً بتسفيه أحلامها، والعيب على آلهتها والنيل من عادتها، وتقاليدها البالية، فكان موقفه أثبت من الجبال الراسيات عندما جاء وفد زعماء قريش إلى عمه أبي طالب يشكونه، ويطلبون من عمه أن يخلي بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه أيضا أن يخفف من مبادأته لهم أو يترك دعوته، ولما رأى من عمه بعض الليونة، أجابه عليه الصلاة والسلام بكل إصرار، وبكل صراحة، وبكل إباء وشمم أجابه قائلاً: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الدين، ما تركته أو أهلك دونه) فأي ثبات أعظم من هذا الثبات؟ وأي موقف أقوى من هذا الموقف؟ هذا هو الموقف الذي فرضه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الأمر وأمثاله، فكيف بهذا الموقف وموقف من يساوم على دين الله بوظيفة، يُلقمه إياها من يعادي دين الله من الحكام الظالمين، وملئهم، فكيف بهذا الموقف، ومن يبيع آخرته بدنياه، أو بدنيا غيره؟
ولنتوقف أيضا عند هذه الإضاءة من سيرة عليه الصلاة والسلام
لما أعيى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ونال منها وبعد فكرها النتن، ولم يكن لديها من الفكر ما ترد عليه، بل وهل لدى كل كفار العالم، وكل شياطين الإنس والجن من الفكر ما يستطيعون أن يثبتوا به أمام بعض أفكار الإسلام، فكيف بأفكار الإسلام كلها؟ لما أعيى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، أرسلت إليه رجلا من أعظم رجالها، هو عتبة بن ربيعة إذ قال: يا محمد لقد نلت من قومك فسفهت أحلامهم، وحقرت آلهتهم، فإن كنت تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا ما نجعلك أوفرنا مالا، وإن كنت تريد رئاسة ملكناك أمرنا، فلا نبت أمرا، إلا بعد الرجوع إليك، وإن كنت تريد الباءة اوالزواج) زوجناك بأجمل بناتنا، فأجابه عليه الصلاة والسلام بكل أدب النبوة أوانتهيت يا أبا الوليد؟ قال: أجل، قال: فاسمعني، فتلا عليه أوائل سورة فصلت إلى أن بدأ يتلو: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم……) فوضع يده على فيه قائلا أنشدك الرحم إلا تكمل.
هذا هو الثبات بعينه وهذه هي العظمة بعينها فيا شباب الإسلام يا من شرفكم الله بحمل دعوته، هذا هو رسولنا يعلمنا الثبات على الحق، الثبات على تكاليف حمل الدعوة، فالله معنا ولن يترنا أعمالنا، والعاقبة لنا فالثبات الثبات فرسولنا لم يداهن، فلا تداهنوا قال تعالى: (ودوا لو تدهنوا فيدهنون) لا تقبلوا إلا الحق ولا تقبلوا الحل الوسط، ألا تقرأوا قوله تعالى عندما عرض الكفار على رسولنا أن يعبد الكفار ربنا يوماً، ويعبد محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمون آلهتهم يوماً، ألم نقرأ القول الفصل : (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون) هذه هي المفاصلة، إذ لا لقاء بين الكفر والإيمان، فالإيمان إيمان، والكفر كفر، وليس بين الإيمان والكفر إلا الكفر، فالعبادة لله وحده والله لا يقبل شريكا، ولن يعبد الكفار الله ويعبدوا آلهتهم في آن واحد، والمسلمون الصادقون لن ينصاعوا لحكم الله ولحكم الكفر في آن واحد، فالمفاصلة بين الكفر والإيمان هي الحق، فكونوا شباب الإسلام يا من شرفكم الله بحمل دعوته واعين في هذا الأمر، فلا يغرنكم الكفار وأعوانهم بعرض الدنيا مهما عظم مقابل التخلي عن دعوتكم، فما عند الله خير وأبقى، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوتنا فنحن عبيد الله وحده لا نخضع إلا لأمر الله ورسوله، ولن يثنينا عن حمل دعوتنا احد، وإن النصر لآت (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51) فإن دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أبو بكر