أكذوبة الانتخابات
تجتاح بعض بلدان العالم الإسلامي هذه السنة ولسنوات مضت موجة من الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ابتداء من أفغانستان مرورا بالعراق ووصولا إلى السودان، هُدر فيها المال والجهد ودوت فيها الهتافات الكاذبة والوعود الباطلة، وصَورت أن شعوب هذه البلدان تُعبر عن إرادتها السياسية بكل اختيار دون «تزوير أو تحريف»، وأن نتائج هذه الانتخابات والمنتخـَـبين هم من اختارهم الشعب. لقد بدأت ظاهرة الانتخابات بالظهور بشكل ملفت قبل ما يقارب العقدين من الزمن، وقبل ذلك لم تكن موجودة، بل كان العالم الإسلامي ولا زال يعيش تحت أنظمة قمعية مغتصبة للسلطة، تحكم شعوبها بالحديد والنار. فما الذي تغير حتى جعل هؤلاء الحكام يقبلون إجراء لعبة الانتخابات مع علمهم بأن صورتهم في أعين شعوبهم قبيحة، واذا مُنحت هذه الشعوب الحرية الحقيقية في الانتخاب لفظتهم وأتت بمن يتقي الله ليحكمها بالقرآن والسنة ويخرجها من الظلمات إلى النور. فهل هذه الانتخابات أكذوبة أم حقيقة؟ وما الغاية من إجرائها؟
إن ما تقوم به حكومات العالم الإسلامي من ظلم وقهر لشعوبها، ومن جلبٍ لقوى الغرب الكافر كي يجثم على صدور هذه الشعوب لتمتص خيراتها وتتركها تتلوى من الجوع. وما يقوم به هؤلاء الحكام من بيع وتنازل عن أراضي ومقدسات الأمة، وتقسيم الممزق من أرض الإسلام إلى دويلات هزيلة، لم يعد مقبولا لدى الأمة، ولم تعد تستسيغ مثل هذه الأمور، فكان لا بد من إضفاء ما يسمى «بالشرعية» على هذه الجرائم. والشرعية في منظور النظام العالمي هي أن من يقوم بهذه الجرائم لا بد وأن يكون منتخب من قبل شعبه وبالتالي كل تصرف يقوم به يكون بموافقة الأمة ورضاها. ولذلك كان لا بد من إجراء هذه الانتخابات وبالتالي أخذ موافقة الأمة على هذه الجرائم، وعليه فإن هذه الانتخابات أكذوبة ولا يراد منها اعطاء الأمة إرادتها الحقيقية في اختيار من يحكمها ويرعى شؤونها بدليل أن كل ما تفرزه هذه الانتخابات هم نفس العملاء أو نسخة مطابقة لهم أمثال حامد كرازي والمالكي، واذا أفرز ت هذه الانتخابات إرادة الأمة الحقيقية فان مصيرها يكون الإلغاء والقمع والاعتقال والتعذيب، وخير دليل على ذلك مصير الانتخابات الجزائرية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حيث أفرزت تلك الانتخابات إرادة الأمة الحقيقية عندما اكتسحت جبهة الإنقاذ معظم مقاعد البرلمان الجزائري لأنها رفعت شعار الإسلام، فكانت النتيجة أن تدخل الجيش بإيعاز من فرنسا فوأد إرادة الأمة بإلغاء الانتخابات واعتقال قادة جبهة الإنقاذ، وما تبع ذلك من أحداث دموية راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء.
وللوقوف على هذه الأكذوبة نستعرض واقع الانتخابات في كل من السودان وفلسطين و الأردن والعراق وأفغانستان وانتخابات الرئاسة في مصر.
السودان، فلسطين، الأردن: جاءت الانتخابات السودانية تنفيذا لاتفاقية نيفاشا التى نصت على ضرورة فصل جنوب السودان عن شماله. فمثل هذه الجريمة الكبيرة لا بد وأن يوافق عليها الشعب السوداني بجميع أطيافه، ولا يكون ذلك إلا بإجراء الانتخابات التي يسهر الغرب الكافر على إنجاحها لتكتمل مؤامرته الرامية لتمزيق السودان، لذلك يراد لهذه الانتخابات اضفاء ما يسمى بالشرعية على انفصال الجنوب، ففي لقائه مع صحيفة «ديرشبيغل الألمانية» الذي نقلته صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 24/03/2010م قال الرئيس البشير: (لقد أدركنا أن مثل هذا الحدث التاريخي- انفصال الجنوب- لا يمكن البت فيه سوى من قبل ممثلين شرعيين عن الشعب)، وهو عينه ما نطقت به أمريكا -مهندسة اتفاقية نيفاشا- حيث قال المبعوث الأمريكي الخاص للسودان (سكوت غرايشن) في مقابلة مع وكالة رويترز في 26/03/2010م: (إن الولايات المتحدة تأمل أن تمهد انتخابات الشهر القادم في السودان السبيل إلى طلاق مدني لا حرب أهلية). وما يدلل على ذلك أيضا قرار الإتحاد الأوروبي إرسال أكبر بعثة في تاريخه لمراقبة الانتخابات؛ تتكون من (130) مراقباً يقودها نائب في البرلمان الأوروبي، ومركز الرئيس الأمريكي الأسبق (كارتر) قرر إرسال (85) مراقباً، والمبعوث الأمريكي (غرايشن) كان يتنقل بين الخرطوم وجوبا وكادقلي لعلاج القضايا العالقة لإنجاح الانتخاباتِ. فكما هو واضح من التصريحات والأعمال السابقة فإن الغاية من أكذوبة انتخابات السودان هي فصل جنوبه عن شماله باسم الشعب السوداني.
وما يجري في السودان هو عين ما جرى في انتخابات فلسطين قبل عدة سنوات، حيث كانت الغاية من تلك الانتخابات إفراز حكومة تضم الفصائل الفلسطينية الفاعلة، ومن ثم تقود هذه الحكومة المشتركة ما يسمى بعملية السلام المشؤومة والتي ستفضي باعتراف شعبي بكيان يهود المغتصب لأرض فلسطين. وهذا أيضا عين ما حدث في انتخابات البرلمان الأردني عام 1993م قبل التوقيع على اتفاقية وادي عربة الخيانية، حيث قامت الحكومة الأردنية والتي حصلت على ثقة البرلمان (أي ثقة الشعب الأردني) الذي كان قسما من أعضائه من الحركات الإسلامية بالتوقيع على تلك الإتفاقية. وعليه يصبح التنازل عن أرض الإسراء والمعراج وبحسب القوانين الدولية تنازلا شرعيا وقانونيا لأنه يتم عن طريق حكومة منتخبة من قبل شعبها.
الانتخابات العراقية والأفغانية: إن الغاية من الانتخابات العراقية والأفغانية متشابهة ومتقاربة، فبعد إحتلالها لهذين البلدين أرادت أمريكا أن تضفي على وجودها الناحية «الشرعية والقانونية» بطريقة تضمن بقاءها في هذه البلدان وبالتالي تبقى مسيطرة على مقدراتهما، وفي الوقت نفسه تغير وجهها الإستعماري القبيح، مع ضمان وجودها العسكري في هذه البلدان، ولكن بشكل وباسم مغاير للمحتل. فكانت الطريقة أمامها هي الإتيان بحكومات منتخبة من قبل الشعبين الأفغاني والعراقي، بكل طوائفهما وقبائلهما وأطيافهما، وبعد ذلك تقوم هذه الحكومات وباسم الشعبين بالتوقيع على إتفاقيات تعاون مشترك، واتفاقيات أمنية، وأخرى دفاع مشترك، حيث تتطلب هذه الإتفاقيات أن تقوم هذه الحكومات المنتخبة وباسم شعوبها بطلب رسمي من أمريكا أن تبقي قواتها وألا تنسحب حتى يتم التعاون والتنسيق الأمني على أرض الواقع. وبالتالى يتحول الوجود العسكري الأمريكي من محتل ومستعمر إلى وجود قانوني وشرعي حسب الأعراف الدولية. وهذا ما تم بالفعل، فلقد أفرزت الانتخابات المزورة عملاء أمريكا في كلا البلدين (كرزاي والمالكي) وتم التوقيع على الاتفاقيات الأمنية فاصبح وجود أمريكا في العراق وأفغانستان قانونيا ولم تعد مستعمرة.
انتخابات الرئاسة المصرية: لقد أصبح من المـُـسلّم به لدى الأمة الإسلامية أن حكامها مغتصبون للسلطة، وجاثمون على صدور أبناء الأمة بلا سند شرعي. وهذه القضية باتت تؤرّق وتقض مضاجع أسياد هؤلاء الحكام، وتخوفهم. هذا آتي من الوقت الذي تنفض فيه الأمة عنها غبار الذل وتنقلب على حكامها وتخلعهم وتأتي برجال مخلصين يحكمونها بكتاب الله وسنة نبيه. فكان لا بد من إعطاء هؤلاء الحكام الصفة الشرعية والقانونية عبر صناديق الاقتراع المزيفة، فكانت انتخابات الرئاسة في مصر التي أفرزت طاغية مصر حسني مبارك، فأصبح وجود هذا الرئيس في الحكم و حسب الأعراف الدولية وجودا قانونيا وشرعيأ، ويكون أي خروج عليه انقلابا على الشرعية الدولية وبالتالي يحق للأمم المتحدة التدخل لحماية إرادة الشعب وحماية هذا الرئيس المنتخب برضا من شعبه بأي الوسائل. وما جرى في انتخابات مصر ينطبق على أي انتخابات رئاسية في العالم الإسلامي كتلك التي جرت في الباكستان.
فكما هو واضح فإن الانتخابات التي تجري في العالم الإسلامي هي أكذوبة وليست حقيقة وهي مُسَيّسة ولا تعبر عن إرادة الأمة لا من قريب ولا من بعيد، بدليل أن من ينجح فيها هم من عملاء الغرب الذين يمررون سياسته في هذه البلدان، واذا ما أفرزت الانتخابات إرادة الأمة الحقيقية كان مصيرها الوأد والإلغاء. وكما هو واضح لكل ذي بصيرة فإن الغاية من هذه الانتخابات هي إضفاء الشرعية القانونية على ما يقوم به هؤلاء المنتخَبون من مؤامرات وتنازل عن مقدسات الأمة وتمزيق لأرض الإسلام.
بقيت مسألة لا بد من الوقوف عليها، وهي أن الانتخابات أداة تستخدمها الأمم والشعوب لتختار بكل حرية ورضا من يحكمها ويرعى شؤونها، وبالتالي فهي ليست حكراً على أحد، بل موجودة في معظم الأنظمة والقوانين، وهي لا تقتصر كما يظن البعض على الديمقراطية فقط، أو أن الديمقراطية هي عينها الانتخابات، فهذا الظن باطل لأن الديمقراطية نظام حكم وليست طريقة للانتخاب، وهي نظام كفر انبثق عن عقيدة باطلة هي فصل الدين عن الحياة. وأما الإسلام فيوجد فيه نوعان من الانتخابات، النوع الأول هو انتخاب ممثلين عن الأمة في الرأي، يرجع إليهم الخليفة لاستشارتهم في الأمور، وهم ينوبون عن الأمة في محاسبة الحاكم، ولا يكون لهم أي صفة تشريعية أبدا (أي أنهم لا يقومون بسن القوانين). ودليل ذلك فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية حيث طلب من الأنصار أن يُخرجوا له إثني عشر نقيبا، أي ممثلين عنهم لدى الرسول صلى الله عليه وسلم. والنوع الثاني من الانتخابات هو انتخاب الحاكم أو (البيعة) لأن السلطان في الإسلام للأمة وهي وحدها لها الحق في انتخاب من يحكمها بالكتاب والسنة، لا بأي شيء آخر مطلقا. وقد كانت هذه البيعة تأخد أشكالا مختلفة على مدار تاريخ الأمة الإسلامية، وكانت في كل مرة يُعبر فيها عن إرادة الأمة، وللتدليل على ذلك نأخذ الكيفية التي تم انتخاب عثمان رضي الله عنه فيها خليفة. فبعد أن طُعن عمر رضي الله عنه، رشح للمسلمين ستة نفر على أن يختاروا منهم خليفة لهم، وكان منهم علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، ولقد تنازل عبد الرحمن عن الترشُح مقبال أن يقوم هو بإجراء عملية الانتخابات، فأخد يطوف المدينة بيتا بيتا وشارعا شارعا، في الليل وفي النهار طيلة ثلاثة أيام، يسأل فيها الناس، الرجال والنساء، ويستطلع رأيهم ورغبتهم فيمن يخلف عمر رضي الله عنه، فوجد أن الناس يرغبون فيمن يسير على نهج أبو بكر وعمر فكانت البيعة لعثمان رضي الله عنهم جميعا على أن يحكم بالكتاب والسنه وأن يسير على ما سار عليه الشيخان. وعليه يتبين أن الإسلام قد أقر انتخاب ممثلين عن الأمة في الشورى والمحاسبة، وأعطى للأمة وحدها حق انتخاب من يحكمها ويرعى شؤونها بدين الحق، وبغير ذلك تكون الانتخابات باطلة لا سند لها.
كتبة للاذاعة ابو اسيد