من إرث مفكرينا وعلمائنا حملة الدعوة -ج2- المرأة في الإسلام
كذلك فقد أكرم الإسلام المرأة أما إكراما لم تبلغه كل التشريعات التي سبقت الإسلام ولا التشريعات الوضعية كلها التي جاءت بعد الإسلام، قال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ …}14-15 لقمان. وقد روى أبو داوود في سننه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. قال: قلت يا رسول الله من ابّر؟ قال أمّك ثم أمك ثم أمّك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب.
وروى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: ( استفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة- وكانت أمها مشركة في ذلك الحين- أفأصلها؟ قال : نعم صلي أمك).
وعن جاهمة السلمي أنه جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال : نعم، قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها.
وقد أمر الإسلام ببر الأم والأب بعد موتهما، وذلك بالصلاة عليهما و الاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما. والأدلة الشرعية التي نصت على ذلك يضيق عنها الحصر في هذا المجال. ولقد عاش المسلمون رجالا ونساء منذ أن أكرمهم الله بالإسلام حياة رغيدة هنيئة، في ظل مجتمع إسلامي منضبط بالأحكام الشرعية،ولم يحظ مجتمع آخر بمثل السعادة التي أظلت المسلمين، لا المجتمعات السابقة قبل الإسلام ولا المجتمعات اللاحقة للاسلام. ولم تكن فكرة المساواة مطروحة أصلا،لأن فكرة التمييز كانت معدومة أصلا.
وقد روت لنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين من بعده، فيضا من الأخبار التي نطقت بمكانة المرأة وسعادتها ورضاها بحياتها في ظل أحكام الإسلام التي نزل بها الوحي من الله تعالى خالق الإنسان والكون والحياة.
فهذه سمية أم عمار رضي الله عنها تؤمن بالله ربها وتحمل الدعوة إلى الإسلام، وتلاقي في سبيل ذلك صنوف العذاب حتى تقضي شهيدة وهي أول شهيدة في الإسلام. لم تمنعها أنوثتها من قول الحق ومن حمل الدعوة، فحملتها كما حملها الرجال زوجها ياسر وابنها عمار.
وهذه نسيبة بنت كعب المازنية أم عمارة، أول ممرضة في الإسلام، يقول عنها ابن هشام صاحب السيرة النبوية( قاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم احد.قالت عنها أم سعد بنت سعد بن الربيع، دخلت على ام عمارة فقلت لها: يا خالة، أخبريني خبرك. قالت خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إلي. قالت أم سعد: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت: من أصابك بهذا؟ فقالت: ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربني هذه الضربة فلقد ضربته على ذلك ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان).
وروى ابن إسحاق عن امرأة من غفار، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من قبيلتي غفار، فقلنا يا رسول الله، قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا، وهو يسير إلى خيبر، فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال: على بركة الله. قالت فخرجنا معه، وكنت جارية حدثه، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله. قالت: فوالله لقد نزل رسول الله إلى الصبح وأناخ، ونزلت عن حقيبة رحله، وإذا بها دم مني، وكانت اول حيضه حضتها،قالت فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم، قال مالك؟ لعلك نفست؟ قالت: قلت نعم. قال فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا. ثم اغسلي به ما أصاب الحقيبة من الدم ثم عودي لمركبك.
قالت فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، رضخ لنا من الفيء واخذ هذه القلادة التي تزين في عنقي فأعطنيها، وعلقها بيده في عنقي، فو الله لا تفارقني أبدا، فكانت في عنقها حتى ماتت.
وهذه خولة بنت الزور، أخت ضرار بن الازور فارس الإسلام المعروف، تتلثم و تمتطي صهوة الجواد، وتدخل في صفوف جيش الروم، حتى يعجب المسلمون من شجاعة ذلك الفارس الملثم، وتقول لنساء المسلمين المصاحبات للجيش، اخلعن اوتاد الخيام واضربن بها كل من أتاكن هاربا من جيش المسلمين.
وهذه الخنساء تماضر بنت عمرو بن الشريد، الشاعرة المعروفة بمراثيها لأخيها صخر، أسلمت وحضرت معركة القادسية ومعها أبناؤها الأربعة، فأخذت تحضهم على القتال قائلة لهم، إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو . إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة. ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، وتعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في الآخرة، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدنيا الفانية يقول الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابرو ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} آل عمران.
ولما بلغها نبأ استشهادهم الأربعة، قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم في سبيل الله، وأرجو أن يجمعني ربي بهم في مستقر رحمته. وهذه امرأة من المسلمين تحاسب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد، تقول ايعطينا الله ويمنعنا عمر، فيقول أصابت امرأة وأخطأ عمر.
هكذا كانت المرأة المسلمة تحمل الدعوة، وتجاهد في سبيل الله، وتقتل شهيدة، وتنجب الشهداء، تحاسب الخليفة، وتزاحم الرجال في طلب العلم، تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: يرحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء ان يتفقهن في الدين.
وكذلك كان الرجال ينظرون إليها أنها ابنة وأخت وأم وزوجة وعرض يجب أن يصان، وتنظر هي إلى الرجل انه ابن وأخ وأب وزوج. ولم يذكر لنا تاريخ المسلمين حادثة واحدة تدل على انتقاص المرأة بسبب أنوثتها، كما لم يذكر لنا تاريخ المسلمين حادثة واحدة تدل على أن المساواة بين الرجال والنساء كانت قضية تبحث. وذلك لأن التمييز لم يكن موجودا أصلا.
وعندما ظهر الاستشراف بعد الحروب الصليبية، انكب مفكروا الغرب يدرسون الإسلام لا لاعتناقه بل لعلهم يعثرون على ثغرات ينفذون منها لطعن الإسلام والتشكيك فيه. فأثاروا مجموعة من الشبهات نذكر منها: أن الإسلام ميز بين الرجل والمرأة في الميراث. وإن شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل، وسمح للرجل بالتعدد، و بضرب زوجته. وقد صدق بعض جهلة المسلمين هذه الشبهات، وهي وإن كانت لا تستحق الرد، إلا أننا نرد عليها جملة واحدة ونقول:
أولا: أن الإسلام دين نزل من خالق الإنسان والكون والحياة، و هو ادرى بالإنسان من نفسه، وأدرى بما يصلحه، وأوامر الله تعالى ونواهيه، إما ان تكون معللة بعلة شرعية، تبين لنا لماذا شرع الحكم على هذا الوجه. وفي هذه الحالة فإن الحكم يدور وجودا و عدما مع العلة، وإما أن لا تكون معللة، فتلتزم الأحكام في هذه الحالة كما هي، وتبقى دون تغيير، ولا يجوز للبشر أن يضعوا علة من عند أنفسهم لهذه الأحكام. وإنما يجب عليهم التسليم المطلق بها كما نزلت. ذلك أن الالتزام بالحكم هو ثمرة الإيمان بالله تعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
اما الشك فيها، أو في صلاحيتها فهو ناقض للإيمان ومخرج من الملة. قال تعالى{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } النساء، وقال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } الأحزاب
ثانيا: أن شبهة انتقاص المرأة بجعل شهادتها نصف شهادة الرجل هي غير صحيحة ذلك لأن هذا إنما يتم في أمور المعاملات وما يجري بين الناس في الأسواق، وفي الغالب الأعم فإن النساء قلما يتدخلن في هذه المعاملات، لأنها بحكم العادة تجري في مجتمع الرجال.
لكن عندما يتعلق الأمر بمسألة تجري في مجتمع النساء فإن شهادة المرأة الواحدة تكفي. فقد روى البخاري عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنه لأبي اهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال عقبه: ما علمت أنك أرضعتني ولا أخبرتني. فأرسل إلى آل أبي اهاب يسألهم، فقالوا: ما علمنا أرضعت صاحبتنا، فركب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فسأله، فقال صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل. (أي كيف تتزوجها وقد علم أنكما أخوين من الرضاعة) ففارقها عقبة وتزوجت غيره.
ثالثا: أما بالنسبة للميراث فإن الأخت تأخذ نصف حصة أخيها، لأنه مكلف بالإنفاق عليها إن كانت فقيرة، وهي ليست مكلفة بالإنفاق عليه. وعندما تنعدم مسؤوليته في الإنفاق عليها، كالأخوة لأم، فإن الأخت تأخذ نفس حصة أخيها.
رابعا: أما بخصوص ضرب الزوجة فإنه كما تقول العرب آخر الدواء الكي. ولو أنه هنا ليس كيا وإنما علاجا للمرأة التي نشزت أي تمردت، ورفضت النصيحة، ولم تأبه بهجر زوجها لها، وقيد هذا الضرب بأنه غير مبرح أي ضربا خفيفا لا يترك أثرا على الجسم، ولا يجوز أن يضرب الوجه. قال تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } النساء.
خامسا: أما بخصوص التعدد فهو ليس فرضا ولا مندوبا، ولكنه مباح من المباحات ورغم أنه حكم غير معلل كما ذكرنا قبل قليل، إلا أن العقول السليمة تدرك أن الصواب فيه متعين، وما يشاهده الناس في العصر الحديث من انحراف عن جادة الحق والصواب وعلى أعلى المستويات وعند علية القوم لأكبر دليل على عظمة التشريع الإسلامي. وعلى عظمة الإسلام الذي نزل من خالق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه.
عبد الله الجبار التميمي – أبو أحمد