التقدم الصناعي والتكنولوجي – ج1
مما لا شك فيه أن التقدم التكنولوجي والصناعي قد صار أمرا حيويا بالنسبة لكيان أي أمة في هذا العصر ، فقوة الأمم العسكرية والاقتصادية تعتمد إلى حد كبير على تقدمها التكنولوجي ، كما أن الاستقلال السياسي للأمم رهن بمقدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيا وبشكل خاص على إقامة الصناعات الحديثة .
غير أن سوء التوزيع التكنولوجي في العالم من جراء وجود فكرة الاستعمار فيه ، قد جعل التكنولوجيا تتركز في عدد قليل من الدول ، والهوة بين هذه الدول والغالبية الساحقة من الدول الأخرى كبيرة الى درجة تبعث على القلق ، لأن الدول الصناعية تحتكر أسرارها التكنولوجية ، وكل دولة منها ولاسيما الدولتين العظمتين : أمريكا وروسيا ، تحرص على تتبع أسرار التكنولوجيا عند الاخرى بمختلف الوسائل : بالتجسس وشراء الذمم وبسرقة الخرائط والتصاميم واستيراد المنتجات الصناعية وما شاكلها .
وإذا نظرنا الى دول العالم اليوم فإننا نرى أنها تتفاوت بين دول صناعية كالولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والمانيا واليابان ، ودول غير صناعية وهي تشمل دول ما يسمى بالعالم الثالث أو الدول النامية وهي تشكل غالبية العالم ، وهناك دول فيها قواعد صناعية أجنبية ولكنها ليست دولا صناعية بالمعنى الحقيقي وإنما هي مجرد أدوات مسخرة في الصراع بين الدول الصناعية للتنافس فيما بينها على أسواق المنتجات الصناعية . وقد وقع اختيار الشركات المتعددة الجنسية على دول كتايوان وهونغ كونغ وكوريا والبرازيل لتوفر الأيدي العاملة الرخيصة فيها فأقيمت في هذه الدول صناعات السيارات والمنسوجات وصناعة السفن ، وأخذت هذه القواعد الصناعية تقلق الأوروبيين واليابانيين حيث تغرق الأسواق بالمنتجات بأسعار يصعب منافستها . ولاشك أن هذا العمل يخدم مصلحة أميركا التي تهدف إلى اعادة تحجيم كل من اليابان وألمانيا.
والذي يدل على أن هذه القواعد الصناعية الأجنبية ليست ناتجة عن تطور حضاري في البلدان التي تؤديها ، هو أن هذه البلدان لازالت متأخرة من الناحية الحضارية ، والتقدم الصناعي لا يفضل عن التقدم الحضاري بل هو مؤشر من مؤشراته ولذا فإن الدول الصناعية حين تزوّد الدول النامية المتخلفة بالمعدات والاجهزة الصناعية لتمكينها من التصنيع ، فهي أنما تهدف أن يكون لها نفوذ في هذه الدول ، وتهدف استخدام الصناعات فيها في حرب التسلط والسيطرة والتنافس فيما بينها على غزو الأسواق العالمية ، ولذا فإنها ليست معنية بالطبع بأن تجعل الدول المتخلفة تستوعب التكنولوجيا الى حد يمكنها من إقامة الصناعات بحيث تؤمن احتياجاتها فتتحول من اسواق استهلاكية لهذه الدول الى منافس جديد على الاسواق الاخرى .
من ذلك يتبين زيف ما يسمى بنقل التكنولوجيا اذ أن طريق القوة هو اقامة الصناعات الثقيلة التي تمكن البلاد من تحقيق الاكتفاء الذاتي والتخلص من النفوذ الأجنبي وصرف النظر عن الاكتفاء بالصناعات الاستهلاكية أو المشاريع التي يقصد منها ابقاء البلاد زراعية وصرفها عن التصنيع الحقيقي . ولاشك أن قيام أي دولة بالتصنيع إنما هو بحد ذاته ثورة على النفوذ الأجنبي وتحد له ، وهو يخالف كل نظريات التنمية التي يعدها الغرب للدول المتخلفة والتي يسايره فيها المثقفون الذين وقعوا تحت تأثير سحره ، وهذه النظريات تقول بالتدرج وتهدف الى ابقاء الدول المتخلفة اسواقا للدول الصناعية موردة للمواد الأولية ، لا بل أن دولة كأميركا تستخدم المؤسسات التي لها طابع دولي كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة كاليونيسكو و اليونيسف ووكالة التنمية وغيرها كأدوات لبسط السيطرة الاستعمارية على دول العالم الثالث ، كما أنها تعمل على اهدار طاقة هذه الدول ومواردها في صناعات استهلاكية لا تحقق لها النهضة الصناعية المبتغاة ، وتعمل على ابعاد الدول المتخلفة عن الطريق الصحيح للتصنيع .
ان التصنيع الحقيقي قد صار في هذا العصر أمرا سياسيا ، لأن معناه الثورة على النفوذ الاجنبي بكافة اساليبه ووسائله ، وهذا يقتضي عدم الاعتماد مطلقا على الدول الصناعية في القيام بالتصنيع ، ويفرض توجيه الطاقات والامكانيات والموارد في البلاد الاسلامية قاطبة نحو التصنيع وعدم العناية بالزراعة إلا بمقدار ما يحقق زيادة الانتاج في الثروة الزراعية الموجودة بحيث تؤمن كافة احتياجات الأمة للمواد الزراعية الضرورية كالمواد الغذائية وماشاكلها من المواد التي لا غنى عنها لأية أمة من الأمم .
وبما أن البلاد الإسلامية لازالت بلادا متخلفة ، ولا زالت تقوم على الزراعة ولاتكاد توجد فيها صناعة ، ولا نعنى فيها بذلك الصناعات الاستهلاكية الخفيفة ، وإنما نعني الصناعات التي تحقق التقدم المادي ، وتحقق الأكتفاء الذاتي للبلاد الإسلامية قاطبة . لذا فإن الطريق الوحيد للانتقال بالبلاد الاسلامية من حالة الاعتماد على الزراعة الى الاعتماد على التصنيع وجعله رأس الحربة في سياسة زيادة الثروة ، هذا الطريق هو البدء باقامة الصناعات الثقيلة وعدم الاعتماد على الصناعات التركيبية مطلقا ، وتشمل الصناعات الثقيلة ما يلي :
1ـ صناعة الحديد والصلب .2ـ صناعة المحركات وتشمل محركات الطائرات والسفن والدبابات والجرارات والسيارات والصورايخ . 3ـ صناعة هياكل الطائرات والسفن والعربات . 4ـ الصناعات البتروكيماوية . 5ـ الصناعات الالكترونية . 6ـ الصناعات النووية بما في ذلك الأسلحة . 7ـ صناعة الفضاء .
ويسار في ذلك على النحو الآتي :
1ـ أخذ الإسلام أخذا فكريا عقائديا ، /لأن التحرر من النفوذ الأجنبي لا يمكن أن يقام به إلا على أساس فكري عقائدي تتبناه قيادة سياسية واعية قادرة على كسب ثقة جمهور الناس بالفكر الذي تريد حتى تستطيع أن توجه طاقتهم لتحقيق الأهداف الصعبة كالتصنيع . وهذا الفكر من البداهة أن يقال أنه ليس الفكر الذي يقوم عليه الغرب ، وبالطبع ليس هو الاشتراكية ، إذ كيف يتأتى التحرر من نفوذ الروس والأمريكان والغرب قاطبة إذا كنا نقوم على نفس الأفكار التي قاموا عليها ؟ إننا لا نريد أن نقول أن أوروبا حين حصلت فيها الثورة الصناعية ، إنما حصلت حين اعتنقت الأفكار الرأسمالية وحين وجدت فيها صناعة الآلات وبالتالي الصناعات الثقيلة . ولا نريد أن نقول أن أمريكا وقد كانت مستعمرة لعدة دول إنما تقدمت ماديا حين حصلت فهيا النهضة الفكرية واعتنقت أفكار الديمقراطية والحريات وأفكار النظام الاقتصادي الرأسمالي ، وحينئذ حصلت فيها الثورة الصناعية بصناعة الآلات . ولا نريد أن نقول أن روسيا لم تكمل ثورتها الشيوعية ضد القيصرية إلا بعد أن اعتنقت الأفكار الاشتراكية والشيوعية ، وإلا بعد أن حصلت فيها الثورة الصناعية بصناعة الآلات . لا نريد أن نقول هذا وهو أمثلة محسوسة وبراهين قاطعة ومسكتة ، وإنما نريد أن نقول أن الواقع الذي تعيشه البلاد الإسلامية يحتم عليها القيام بالثورة الصناعية في الحال ، وأن التذمر من طريقة العيش الراسمالية والاشتراكية والشيوعية قد بلغ حدا يقرب من حد الإنفجار ، فهم اليوم في شعور بضرورة فصلهم عن الغرب والشرق ، وفي شعور بضرورة تغيير طريقة عيشهم لتتجه نحو الإسلام باعتباره وحده الذي يحررها من نفوذ الغرب والشرق ، ويجعل بلادها بلادا صناعية تعتد مركزا مرموقا بين غيرها من الأمم ، بل تكون في مركز الدولة الأولى في العالم .
2 ـ لا بد من التفكير العاجل في زيادة الإنتاج الزراعي فيما هو مطلوب فقط في الأسواق العالمية للحصول على العملة الصعبة من أجل الثورة الصناعية . وذلك لأن الإنتاج الصناعي يكاد يكون معدوما بل هو معدوم ، فلا يوجد عندنا إنتاج صناعي للتصدير إلى الخارج ، فإذا لم نصدر إنتاجا زراعيا لا توجد لدينا ثروة للتصدير لأن ثروتنا في جملتها ثروة زراعية ، فإذا لم نصدر منها للخارج يصعب علينا الحصول على عملة صعبة وهذا يؤثر على عملنا في القيام بالثورة الصناعية ويؤثر كذلك على عملتنا ما دامت نقودا ورقية وثيقة . لأننا حين لا نصدر بضاعة للدول الأخرى لا نستطيع الحصول على عملة تلك الدول ، فنضطر لبيع عملتنا في الأسواق العالمية للحصول على المواد اللازمة للثورة الصناعية . وزيادة الإنتاج التي نحتاجها إنما تكون في المواد التالية :
أولا : زيادة الإنتاج في حقل المواد الغذائية ، سواء في الثروة الزراعية أو في الثروة الحيوانية ، وذلك لتحقيق الإكتفاء الذاتي في المواد الغذائية ، ولتوفير العملة الصعبة للثورة الصناعية .
ثانيا : زيادة الإنتاج في المواد اللازمة للكساء كالقطن والصوف القنّب والحرير ، فإن هذا ضروري جدا ، لأنه من الحاجات الأساسية التي لا يمكن الأستغناء عنها والتي لا بد من توفيرها في البلاد ، حتى لا نشتريها من الخارج فنضطر لدفع ثمنها من العملة الصعبة ، وحتى نبعد الناس عن خطر العرى والحاجة الى اللباس .
ثالثا : زيادة الإنتاج في المواد التي لها أسواق خارج البلاد كالحبوب والقطن والمطاط والزيوت وما شاكلها . ويبدأ بزيادة الإنتاج في هذا الحقل فورا وفي الحال لشدة الحاجة الآنية اليه ، للحصول على أكبر كمية من العملة الصعبة لشراء ما يلزم لتحقيق الثورة الصناعية .
3 ـ وقف القيام بالمشاريع العمرانية المتعلقة بالزراعة ، والاقتصار على ما هو موجود منها فقط . ولا يصح القيام بالمشاريع العمرانية من مثل بناء السدود والأقنية والآبار الارتوازية في الوقت الحاضر ، إلا بما هو ضرووي وما لا يمكن الإستغناء عنه ، والا اصلاح وترميم ما هو موجود . وذلك لأنه ليس المراد القيام بثورة زراعية في البلاد ، بل المراد القيام بثورة صناعية والعناية بالثروة الزراعية عناية كافية لزيادة الإنتاج . لأن الهدف الاقتصادي هو إيجاد التقدم المادي ، وهو لا يكون إلا بالثورة الصناعية ، بل لم يحصل في العالم تقدم في أي بلد إلا بالثورة الصناعية . وأما القيام بالثورة الزراعية والثورة الصناعية معا على أن تكون الصناعة هي رأس الحربة في التقدم ، فإن هذا يحصل حين يكون هناك تقارب بين الثروة الزراعية والثروة الصناعية أما في مثل البلاد الأسلامية فإنها برمّتها بلاد متأخرة ماديا ، وهي تقوم على الزراعة ولا تكاد توجد فيها صناعة ، والصناعات التركيبية والصناعات الاستهلاكية القائمة فيها لا تجعل البلاد صناعية ، وإنما الذي يحقق التقدم المادي ويجعل البلاد الاسلامية بلادا صناعية هو البدء بالصناعات الثقيلة ، ولهذا يجب أن يوجه الجهد الى القيام بالصناعات الثقيلة ، وأن لا يقام بالصناعات التركيبية مطلقا ، وأن لا يكتفى بالصناعات الإستهلاكية لأنها لا تحقق الثورة الصناعية في البلاد . أيضا يجب أن يغض النظر عن القيام بالثورة الزراعية لأن القيام بها إلى جانب الثورة الصناعية إنما يكون على حساب الثورة الصناعية ويضعفها ، فيكون القيام بها ضررا على تقدم البلاد بل هو يحد من التقدم الصناعي ويعوقه . ولذلك كان من خطط الدول الغربية صرف البلاد الإسلامية للزراعة وتشجيعها عليها بتمويل مشاريع الري وما شاكلها لإعاقتها عن التقدم وحتى تبقى دولا ضعيفة هكذا للأبد .
4 ـ لا توجد طريق آخر لجعل البلاد الإسلامية بلادا صناعية إلا بالبدء بصناعة الآلات أولا وقبل كل شيء ، ثم عدم القيام بإيجاد أي مصنع إلا من الآلات المصنوعة في البلاد . وهذا لا يحتاج إلى وقت طويل كما يروج الغرب ومن وراءه من المضبوعين بثقافته ، وإنما يحتاج تحقيقه إلى بضع سنوات لإيجاد مصانع الآلات ، والى عقدين من الزمن لإقامة الصناعات الثقيلة ، أما القول بأن صناعة الآلات يحتاج إلى وقت طويل فلابد أن نبدأ بصناعة الحاجات الأساسية ، فهو قول هراء ، وهو دسيسة يراد منها تعويق صناعة الآلات وصرف البلاد إلى الصناعات الإستهالكية حتى تظل سوقا للغرب . على أن الواقع يكذب هذا القول ، فإن روسيا القيصرية حين خرجت من الحرب العالمية الآولي كانت عالة على أوروبا ، ولم تكن قد نشأت لديها صناعة الآلات ، وفي مدة قصيرة وجدت صناعة الآلات في روسيا وها هي اليوم تزاحم أمريكا على الصناعات الثقيلة وعلى اقتعاد مركز الدولة الأولى وتستعد لخوض حرب عالمية ثالثة ضد أمريكا وأوروبا في سبيل تحقيق ذلك . أما القول بأن صناعة الآلات وبالتالي الصناعات الثقيلة تحتاج إلى إيجاد وسط صناعي من مهندسين وعمال فنيين وما شاكل ذلك فهو قول مغلوط ، وتضليل مقصود يراد منه المغالطة والتدليس للحيلولة بيننا وبين تحقيق التقدم المادي في الحياة . لأننا يمكن أن نستعين بأبناء البلاد الإسلامية العاملين في أوروبا وأمريكا في مصانع الحديد والصلب ، ومصانع المحركات ، والأسلحة وما شاكلها ، فإنهم يعدون بمئات الألوف ويمكن الإنتفاع بخبراتهم ، وفي نفس الوقت يمكن إرسال المئات بل الآلاف من شبابنا لتعلم صناعة الهندسة الثقيلة ، وصناعات الفولاذ ، وهذا سهل ميسور ، وفي متناول اليد والقول بأننا يجب أن نبدأ بالصناعات الضرورية لنا كصناعة المنسوجات وصناعة الورق وصناعة خام الحرير وما شاكل ذلك ، هو قول باطل يقصد منه التخدير والتضليل عن الطريق الصحيح . ولهذا لا يصح أن يلتفت إلى أي شيء من الصناعات الإستهلاكية وأن يحصر الإتجاه نحو إيجاد صناعة الآلات أولا ومن ثم سائر الصناعات الثقيلة . ولا يقام بأي شيء سوى الضروريات وسوى ما لابد منه لإيجاد صناعات الآلات .
5ـ الصناعات الإستهلاكية تبقى كما هي لأنها لا تزال في بداية النشوء، ولذلك لا نسير فيها شوطا أكبر ولا ننشيء غيرها ، بل يجب التوقف عند حد ما هو موجود وتغيير الطريق تغييرا فجائيا وحصره بالإتجاه لصناعة الآلات وللبدء بالتصنيع الثقيل . ولكن ليس معنى تغيير الطريق هو قفل باب الاستيراد ، فإن هذا لا يجوز حسب سياسة الأقتصاد في الإسلام ، لأن لرعايا الدولة أن يشتروا ما يريدون من داخل البلاد وخارجها ، بل معنى تغيير الطريق هو إيجاد مصانع الآلات وجعلها كأرقى مصانع الآلات ، وحينئذ يحصل الشراء منها ولا يحصل الإستيراد طبيعيا بشكل تجاري ، من غير حاجة لأن تمنعه الدولة .
6ـ إن ما عندنا من مصانع استخراج النفط ومصانع تصفيته ومصانع استخراج غيره من المعادن ومصانع استخراج البوتاس وما شاكل ذلك ، يقتصر عليها دون التوسيع فيها ودون إنشاء جديد لمصانع إلى أن نقوم نحن بصناعة الآلات . فلا نشتري آلات جديدة للإستخراج والتنقيب والتكرير والتصفية بل ننتظر إلى أن نصنع نحن الآلات ، وحينئذ نقوم بإستخراج المعادن ونقوم بسائر الصناعات الثقيلة بالآلات التي صنعناها نحن . وأما ما نحتاجه من معادن كالفحم الحجري والنفط والحديد وماشاكلها في حال عدم كفاية مالدينا منها ، فإننا نشتريها من الغير إلى أن نوجد مصانع الآلات وحينئذ ننشئ المزيد من مصانع استخراج النفط والحديد وماليها من سائر المعادن .
7ـ يجب الإعتماد على النفس مهما كانت الصعاب أمام التصنيع . ورغم إننا لا يمكن أن نستغني عن المعرفة والأنجازات العلمية الأجنبية إلا أنه يجب إقامة أسوار عالية لمنع النفوذ الأجنبي من إيجاد طريقة الي عملية التصنيع التي نريد ، وذلك يستلزم فيما يستلزمه إبعاد الشركات الأجنبية والأجانب عامة بما فيهم الخبراء ، لأن ذلك من وسائل تسريب النفوذ الأجنبي إلى البلاد . فإقامة الصناعات يتم عن طريق أبناء البلاد فقط . وقد يتهيأ للبعض استحالة القيام بهذه المهمة إذا ما اعتمدنا مبدأ الإعتماد على النفس ، وهذا ما يروّج له الغرب والمضبوعون بثقافته لكننا نقول أن ذلك ممكن ، فقط قامت روسيا في مطلع هذا القرن بتحويل بلادها من بلاد زراعية متخلفة ألى بلاد صناعية تقف في مقدمة الدول الصناعية الراقية ورغم أننا لا نؤمن بالنظام السياسي في روسيا إلا أنه استطاع أن يحقق التصنيع على الشكل الذي ذكرناه من الإعتماد على النفس ، وهذا هو محل استشهادنا بتجربته وقد اشتهر عن لينين قوله حين طلب منه تحسين الأنتاج الزراعي بشراء آلات حراثة ( تراكتورات ) : لن نستعمل التراكتورات حتى ننتجها نحن وحينئذ نستعملها . وقد كان ماو تسي تونغ في الصين يتبع نفس الطريق الذي اتبعه لينين من الأعتماد على النفس واغلاق أبواب الصين أمام النفوذ الأجنبي ، ورغم أن الصين على عهد ماو حققت بعض النجاح في هذا المضمار إلا أنها اخفقت في تحقيق التصنيع وهذا الفشل يمكن أرجاعه إلى أن الشيوعية قد فقدت زخمها وظهر بطلانها ومناقضتها لفطرة الإنسان فلم تصبح عقيدة جمهور الناس في الصين فعجزت القيادة عن تحريك الجماهير نحو أهدافها .
8ـ تقف في وجه تحقيق التصنيع أمام أي بلد يريد التقدم بعض المخاطر والمصاعب منها :
أولا : أن عملية التصنيع بإقامة الصناعات الثقيلة أمر يحتاج تحقيقه إلى سنوات طويلة قد تصل الى عقدين من الزمن على أحسن الظروف ، وفي هذه الفترة الانتقالية ستكون الدولة التي تسير في هذا الطريق عرضة للمؤامرات السياسية من الداخل والخارج ولا سيما وأنها ستبقى أضعف من الدول المتقدمة إلى أن تحقق التصنيع .
ثانيا : إن المقصود من عملية التصنيع هو اللحوق بمصاف الدول الصناعية المتقدمة وهذه الدول ليست في حالة جمود بل هي في حالة تقدم مستمر في مستواها التكنولوجي ، فمن يريد اللحاق بها عليه أن يطارد هدفا متحركا والهوة بيننا وبينهم آخذة في التوسع فسرعة تطور الإنجازات التكنولوجية مذهلة .
ثالثا : إن سيطرة الدول المتقدمة على نظام النقد الدولي وعلى الإقتصاد العالمي يحتم على الدولة الراغبة في التصنيع أن تقيم جزيرة نقدية واقتصادية مغلقة ، وهذا لا يعنيى عدم الاشتراك في التجارة الدولية بل يعنى العمل على أساس الوصول الى الأكتفاء الذاتي لتقليل اعتماد الدولة على الخارج وخاصة في الحاجات الأساسية ، وأما بالنسبة للتمويل فإنه يجب الحذر كل الحذر من المساعدات والقروض الأجنبية سواء من المؤسسات التي تتستر تحت اسم دولي أو تلك التي تعود الى الدول الكبرى أو البنوك الخاصة . وهذه القروض والمساعدات تعطى عادة للسيطرة على الدول المدينة وافقارها . وعليه فإن على الدولة الراغبة في التصنيع مهمة شاقة في شق طريقها بالاعتماد على النفس بالتمويل الذاتي وعدم الدخول في شباك الدول الاستعمارية التي تسيطر على نظام النقد الدولي .
رابعا : إن البلد الذي يبدأ في التصنيع من الصفر سوف يعاني من مشكلة قلة الخبرات والأيدي العاملة المدربة أو بتعبير آخر مشكلة قوى بشرية ، وفي هذا المجال فإن للخبرة أهميتها .
ورغم أن هذه المشكلة لا يستهان بها وتستحق الدراسة والتخطيط لمواجهتها إلا أنها أقل شأنا من المشاكل السابقة لا سيما وأن أبناء الدول النامية يشكلون قسما غير ضئيل من القوى العاملة في الدول الأوروبية وأمريكا ويمكن الاستعانة بهم .
9ـ إن التصنيع فوق كونه ضرورة من ضرورات التحرر من النفوذ الأجنبي ، وأن ذلك لا يمكن أن يتم في العالم الإسلامي إلا على أساس الإسلام كقيادة فكرية ، لا كفكرة روحية فحسب ، فإن التصنيع إيضا يستلزم الوحدة بين المسلمين في كيان واحد حتى يتوفر في هذا الكيان القوى البشرية اللازمة للتصنيع والمتوفرة في بلدان كمصر وتركيا وأندونيسيا ، بالإضافة الى الموارد الأولية والمتوفرة في بلدان أخرى في آسيا وأفريقيا . وهذا كله لن يتأتى الا ببناء دولة واحدة لكافة الدول التي يتشكل منها العالم الإسلامي ، وهذه الدولة يجب أن تكون سياستها الإقتصادية وكل شيء فيها مبنية على أساس الإسلام ، فإنه بغير الإسلام لا يمكن النهوض بالعالم الإسلامي وتحقيق التقدم التكنولوجي والصناعي فيه والتحرر من التبعية للغرب . غير أن هذا يتطلب من الدول رؤية سياسية نافذة لتصور المشاكل الضخمة التي يقتضي التغلب عليها والتي من ضمنها مشكلة التصنيع التي سبق أن بينا أنها مشكلة سياسية أكثر من كونها مسألة تكنولوجيا ومعرفة . ولذلك كان لابد من التفكير الأصيل الراقي الذي يمكن من الاجتهاد لحل المشاكل الحديثة على أساس إسلامي صاف يعود الى الكتاب والسنة .
عبد السلام أبو حامد – الأردن