من أقوالهن عبر ودروس – ح 7- مراقبة الله في السر والعلانية
سنذهب اليوم إلى سوق من الأسواق في زمن خلافة الفاروق لنسمع قصة قرأناها كثيراً منذ صغرنا، حيث كان بعضُ بائعي اللبن يخلطونه بالماء، واشتكى المسلمون من ذلك، فأرسل الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أحد رجاله ينادي فى بائعي اللبن بعدم الغش، فدخل المنادي إلى السوق ونادى: يا بائعي اللبن لا تَشُوبوا اللبن بالماء، فتغشّوا المسلمين، وإن من يفعل ذلك فسوف يعاقبه أمير المؤمنين عقابًا شديدًا.
وذات ليلة خرج عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه مع خادمه أسلم ليتفقد أحوال المسلمين في جوف الليل، وفي أحد الطرق استراح من التجوال بجانب جدار ، فإذا به يسمع امرأة تقول: قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه (اخلطيه) بالماء . فقالت الابنة: يا أُمَّاه ، وما علمتِ ما كان من عَزْمَة أمير المؤمنين اليوم؟! قالت الأم: وما كان من عزمته؟ قالت: إنه أمر مناديًا فنادى: لا يُشَابُ اللبن بالماء.فقالت الأم: يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامْذقيه بالماء فإنك في موضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر. فقالت الصبيّة: واللَّه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، إن كان عمر لا يرانا، فرب عمر يرانا.
إنها أم عمارة بنت سفيان التي نقشت اسمها بأحرف من نور بورعها وأمانتها وخوفها من اللَّه تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي أكرمها في الدنيا بزواجها من ابن أمير المؤمنين عمر، وجعل من نسلها أميرًا للمؤمنين هو عمر بن عبد العزيز .
وهذا ما يجب أن يكون عليه المؤمن ،، متيقن من اطلاع الله تعالى على ظاهره وباطنه، وأنه ناظرٌ إليه، سامعٌ لقوله، عالمٌ بحركاته وسكناته .
وإن من أهم المعاني العظيمة التى يجب علينا أن نربي أبناءنا عليها هو استشعار رقابة الله تعالى فهى كفيلة إذا ما غرست فى نفوس الأبناء بعناية بأن تجنبهم الكثير من الزلل فى عالم الشهوات والشبهات اليوم ،فنحن لا نستطيع أن نحجب الأبناء عن كل فتن ومغريات هذه الحياة ولكننا نستطيع ان نزرع فى نفوسهم مراقبة الله وذلك من خلال غرس عبادة الإحسان في نفوسهم منذ نعومة أظفارهم، والتي شرحها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .
فمن قام في قلبه أنه لا تخفى على الله خافية، راقب ربه وحاسب نفسه وتزود لمعاده، واستوى عنده السر والإعلان، ولذلك كان من وصاياه صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله حيثما كنت)) أي في السر والعلانية حيث يراك الناس وحيث لا يرونك، فخشية الله تعالى في الغيب والشهادة من أعظم ما ينجي العبد في الدنيا والآخرة ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)) وكان الإمام أحمد كثيراً ما ينشد قول الشاعر:
إ
ذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقـل خلــوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفـــل ساعة ولا أن مـا يخفـى علـيه يغيب
فلنتقِ الله في السر والعلن ولنحذر من انتهاك محارم الله في الخلوات فإن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه أثره ومذلته .
فإن كنت تظن أنه لا يراك فقد كفرت بالله، وإن كنت تعلم أن الله يراك فكيف تجترئ على خالقك وربك ومولاك وتجعله أهون الناظرين إليك، لا تنظر يا عبد الله إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، انظر إلى عظمة الله وإلى جلال الله.
وإن الصحابة رضوان الله عليهم استشعروا رقابة الله، فأثرت هذه الرقابة في حياتهم وفي سلوكهم حتى كانوا خير أمة أخرجت للناس، إنهم لم يكونوا ملائكة ولم يخرجوا عن بشريتهم في يوم من الأيام، ولكنهم كانوا في أروع صورة بشرية عرفتها الدنيا، لأنهم تخرجوا من مدرسة الحبيب محمد ، وتربوا على مائدة القرآن وسنة سيد الأنام محمد .
لكن اليوم وحين غابت مراقبة الله وضعف الإيمان عند عدد كبير من الناس تجرؤا على محارم الله وجاهروا بمعصيته والبعض إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ، غابت المراقبة فأُكل المال الحرام وفعلت الفواحش والآثام وضيعت أحكام شرعية وحرفت غيرها ، قل الحياء وظهر العقوق وبخست الحقوق وتعلقت القلوب بالدنيا وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانطفأت الغيرة على حرمات الله فلا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ولنتأمل هذا الحديث النبوي الشريف من سنن ابن ماجه بسند جيد من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً)) قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جَلِّهِم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل ما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) فما أحوجنا إلى تأمل هذا الحديث واستحضاره لا سيما في أيامنا هذه التي كثر فيها الفساد وتيسرت أسبابه فلم يبق مانع ولا حاجز إلا أن يخاف العبد ربه في السر والعلن.
اللهم اجعلنا ممن يطيعون ولا يعصون ، ويذكرون فلا ينسون ، ويشكرون قلا يكفرون .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .