أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض
إن أعظم ما خص الله سبحانه به شهر رمضان أن جعله شهر القرآن العظيم، رسالة الله الخاتمة لجميع بني الإنسان، قال تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ) البقرة 85. وفي ذلك دعوة صريحة وإشارة واضحة للمسلمين لكي يعظموا القرآن ويعكفوا في رمضان خاصة على دراسته وتدبره، والوقوف على بيناته من دلائل العقائد والأفكار ليتمثلوا هدي القرآن في حياتهم، ويطبقوه في علاقاتهم، فيقيهم القرآن من زيغ العقائد والأديان والمبادئ وضلالها، ومن ظلم الشرائع الوضعية والنظم البشرية وفسادها. وكذلك ليكتسبوا من أحكام القرآن ومقاييسه فرقانا، يمكنهم في الحياة الدنيا من التفريق بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، وبين الولاء لله ولرسوله ولجماعة المؤمنين، والبراء من الكفر والنفاق وأهله.
وإن أعظم ما وقع في هذا العصر تقصير كثير من المسلمين في حق القرآن، بتطبيق بعض أحكامه، وإهمال الأخرى، فترى من تقاة المسلمين من يعظمون أحكام العبادات ويمتثلونها، ويهملون أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحمل الدعوة الإسلامية، وترى بعض أهل العلم في الإسلام يشتغلون بأحكام النكاح والبيوع، ويهملون أحكام الحسبة والجهاد، وترى من الدعاة، أفرادا وجماعات، من يحرصون على دعوة الناس إلى حسن الخلق وإيتاء الزكاة، ويغضون الطرف عن أحكام الخلافة والبيعة وإقامة الحدود.
وقد نبه الله تعالى المؤمنين ألا يحذوا حذو قوم غضب الله عليهم ولعنهم، وهم قوم يهود، حيث قال فيهم سبحانه، مبينا ومحذرا (ثمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ، وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) البقرة 85.
يقول الإمام القرطبي في تفسيره: (وهذه الآية.. نزلت في بني قينقاع وقريظة والنضير من اليهود؛ وكانت بنو قينقاع أعداء قريظة، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة. والنضير والأوس والخزرج إخوانا، وقريظة والنضير أيضا إخوانا، ثم افترقوا فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب فيفدون أسراهم؛ فعيرهم الله بذلك فقال: “وإن يأتوكم أسارى تفادوهم”)، ثم أضاف (قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم؛ فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء؛ فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى فقال: {أفتؤمنون ببعض الكتاب} وهو التوراة {وتكفرون ببعض}. انتهى.
فيهود لم تجحد بعض التوراة، ولم تنكر كونها من عند الله، بل أعرضت عن بعض ما جاء فيها من أوامر الله وعطلتها، مع التزامها بفداء الأسارى، ومع ذلك فقد وصف الله تعالى إعراضهم كفرا.
هكذا كان حال يهود. أما حال المسلمين اليوم فقد بلغ مبلغا عظيما وخطرا، فها هم حكامهم ومفتوهم يسوقونهم لقتل بعضهم البعض، كما وقع في الحرب العراقية-الإيرانية، وفي اليمن وفلسطين ولبنان وباكستان، ويتآمرون على المسلمين فيخرجونهم من ديارهم كما فعل حكام العرب مع أهل فلسطين عام 1948م، ويقودونهم لمظاهرة الكفار على المسلمين بالإثم والعدوان، كما حصل في حرب الخليج الثانية، وكما يحصل اليوم من مظاهرة حكام المنطقة للاحتلال الأميركي في العراق وعدوان يهود على أهل فلسطين ولبنان، ومظاهرة القوات التركية لقوات حلف الناتو في قتال المسلمين الأفغان، ومظاهرة النظام الباكستاني للاحتلال الأميركي لأفغانستان… وحينما تفرج أميركا عن أسارى المسلمين المعتقلين لديها في سجن غوانتانامو، يستقبلونهم على استحياء، بل إن بعض الأنظمة الحاكمة يرفض حتى استقبال الأسارى المسلمين من رعاياها!
نسأل الله العلي القدير أن يقيض لهذه الأمة في هذا الشهر الكريم أمر رشد يصلح به دينها ودنياها، خلافة راشدة على منهاج النبوة، فتقيم فيها شرع القرآن، وتنزع عنها حكام السوء والمذلة، وتنصب مكانهم خليفة راشدا يعيد للقرآن دوره في حياة المسلمين، ويعلي شأنه في العالمين، وما ذلك على الله بعزيز.
فادي عبد اللطيف