الشجاعة السياسية
لقد تعارف الناس على النفور من الجُبْن واعتباره صفة بذيئة لا تلازم إنسانا إلا وأوجدت عنده الذل والخنوع. وقد كان الناس عبر التاريخ -ولا يزالون- يقدِّرون كل شجاع ويضربون به الأمثال. و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجُبْن كما روى البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده، «حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالجُبْن وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ». وقد يكون الجُبْن أمام عدو غاشم، أو أمام حاكم ظالم، أو أمام مجتمع فاسد أو أمام انسان متغطرس متكبر. وقد ضرب المسلمون – ولا زالوا- أروع الأمثلة في الشجاعة والإقدام على محاربة الأعداء، فإذا ما داهم الأعداء بلداً من بلاد المسلمين، خرج أهل البلد وغيرهم من المسلمين للدفاع عنه ودحر العدوان، والأمثلة كثيرة على ذلك مثل العراق وفلسطين والشيشان وغيرها. وقد ضرب المسلمون أيضاً أروع الأمثلة في الشجاعة والإقدام في القتال في سبيل الله ونشر رسالته حتى أصبح الجيش الإسلامي عند أعدائه جيشاً لا يُقهر ولا يُتغلب عليه. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته قبل ذلك أروع الأمثلة في الشجاعة وعدم الجُبْن في حمل الدعوة الإسلامية لأهل مكة وغيرها، وصبروا وتحملوا كل أنواع العذاب، ولم تفتر لهم عزيمة حتى نصرهم الله بإقامة الدولة الإسلامية في المدينة.
وقد جاء الإسلام وحث المسلمين على الشجاعة السياسية؛ وهي الشجاعة في رعاية شؤون الناس ومحاسبة من يقصر في هذه الرعاية. والسياسة لغةً تعني الرعاية، وقد جاء الإسلام وأكد هذا المعنى، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ تَكْثُرُ» (صحيح مسلم). أي كانت ترعاهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (صحيح البخاري). وقد فرض الله عز وجل على الأمة الإسلامية أن تحاسب حاكمها، وتقوِّم اعوجاجه، وتراقب أعماله وتصرفاته، وتطيعه في غير معصية الله عز وجل، قال تعالى «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (آل عمران: 110). وروى أحمد في مسنده «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أي الجهاد أفضل قال كلمة حق عند إمام جائر». وقد فهم الصحابة هذا الحكم وهو الإقدام على محاسبة الحاكم وعدم الجُبْن أمامه، وقد تبعهم في ذلك التابعين وتابعي التابعين، وضربوا أروع الأمثلة في ذلك. فقد حاسب المسلمون عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الأبراد اليمانية وفي تحديد المهور، وحاسب الصحابة رضوان الله عليهم معاوية، وحاسب التابعون حكامهم وولاة أمرهم، والقصص كثيرة ومشهورة عن سعيد بن جبير مع الحجاج، وسعيد بن المسيب مع عبد الملك بن مروان، وتبعهم في ذلك فقهاء المسلمين من أمثال أحمد بن حنبل وأبو حنيفة ومالك وغيرهم الكثير من علماء الأمة، ولم يقبلوا من الحاكم تقصيراً أو ظلماً ولو في حُكْم واحد مع أن الدولة والنظام فيها كانا يسيران حسب أحكام الإسلام.
واستمرت الأمة في شجاعتها السياسية ما بين إقبال أو توقف حسب قوة فهم الأمة للإسلام. وقد دفعت الأمة ثمناً غالياً في هذا الزمان حين جبنت عن محاسبة أواخر الخلفاء العثمانيين، ولم تقم بما فرضه الله عليها بالأخذ على يد كمال أتاتورك الكافر لإبقاء حكم الله مطبقاً. وكانت الفاجعة الكبرى حين أعلن كمال أتاتورك سقوط دولة الخلافة وطرد الخليفة خارج البلاد بصورة مذلة ومحزنة. وبضياع دولة الخلافة والأم الرؤوم، استشرى الجُبْن عند الأمة -إلا من رحم الله- وانعدمت الشجاعة السياسية، ولم تعد الأمة تكترث بمحاسبة حاكم أو قائد، مع أنها حاربت الاستعمار والاحتلال، وأثبتت أنها تمتلك طاقة حيوية وشجاعة فائقة.
وقد ابتليت الأمة في هذا الزمان بعلماء مَلَك الخوف قلوبهم، وأنفوا الشجاعة، وأحبوا الخنوع، فلا تركوا الأمة تُقدِم على محاسبة الحكام، ولا قادوها إلى ذلك. بل إن قام فرد أو حزب بمحاسبة هذا الحاكم وقف هؤلاء «العلماء» في وجههم ورموهم بأقوالهم الممجوجة بوجوب طاعة الحاكم والصبر على أذاه، وعدم رمي النفس في التهلكة، وهم من بعد ذلك يكيلون المدح والثناء والدعاء لهذا الحاكم، وأصبحت الأمة بين فكين: الحكام وأعوانهم من الأجهزة الأمنية، والعلماء وفتاويهم.
وقد عمل الحكام يساندهم في ذلك أسيادهم الغربيون على بثِّ الجُبْن السياسي عند المسلمين، وحرمانهم من تلك الشجاعة السياسية حتى يضمنوا بقاء الأوضاع على حالها وحتى لا يتمكن المسلمون من اقتعاد مكانتهم بين الأمم وحمل الخير إلى الناس كافة. وقد قام هؤلاء الحكام بقتل وتعذيب وسجن ونفي كل من يقوم بمحاسبتهم وبيان الحق لهم. فالبعثيون في العراق أعدموا كثيراً من المسلمين وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز البدري. وقام العابث مجرم ليبيا بقتل 13 مسلماً أمام حشد من الطلبة والمدرسين وما كان ذنبهم إلا بيانهم ومناقشتهم له بأن السنة النبوية -التي ألغاها القذافي- هي مصدر من مصادر التشريع كالقرآن الكريم. وما قام به ضباط الإجرام في مصر الكنانة من إعدام العشرات وعلى رأسهم سيد قطب. وما قامت به كل الأنظمة الاخرى من مجازر وإرهاب تقشعر لها الأبدان ولا يتسع المقام لذكرها. وأرهبوا الناس ونشروا الرعب والخوف من مثل أن السلطة تعلم كل شيء، وأفقروا الناس وسلبوا خيرات البلاد وكأن الناس عبيد لهم والدولة مزرعة لهم ولأولادهم. ولم يكترثوا بفقير أو مسكين أو أرملة أو طفل صغير، فالمهّم هم وأطماعهم وأن تتحقق رغباتهم، وقد كَرَّسوا المثل القائل «أنا ومن بعدي الطوفان». وقد نشروا بين الأمة أمثالاً وأقوالاً غريبة، مثل «اليد لا تلاطم مخرزاً» و «ضع رأسك بين الرؤوس» وما كل ذلك إلا لجعل الأمة تقبل بالأمر الواقع. وقد قاموا بتوظيف «علماء» جُلَّ همّهم هو ترويض وتطويع الأمة وتركيعها لهذا الحاكم. ففي بلاد نجد والحجاز مثلاً، كان استقدام العمال والخدم الكفار لا يجوز، وبين عشية وضحاها أصبح استقدام الجيوش الأجنبية واجباً وجائزاً ! وتجد في أوزبكستان «علماء» يقفون للدفاع عن كريموف حاكم البلاد الذي يحكم بالكفر، ويسجن ويقتل المسلمين علناً وبالآلاف. وتجد في مصر والأردن «علماء» نصبوا أنفسهم لتبرير اتفاقيات الخيانة، وحماية كيان يهود وتجويع المسلمين في غزة. وتجد في بلاد الشام من يقف ويمدح نظام الخزي والعار القاتل لعشرات الآلاف من المسلمين.
ولم يسلم المسلمون في بلاد الغرب من مرض الجُبْن السياسي، ولم يتحلوا بالشجاعة السياسية، مع أن المفروض أنهم يعيشون في ظل أنظمة ديمقراطية تتغنى بالحرية وباتساع الصدر للمحاسبة. فالدول الغربية تريد من المسلمين الاندماج في المجتمعات وأن يصبح المسلمون مواطنين أوروبيين أو أمريكيين ولكن بدين إسلامي كما هو حال المواطن الأمريكي المسيحي أو اليهودي أو غيرهم، أي بمعنى أن يصبح المسلمون يقومون بالعبادات ولكن حكمهم وفكرهم عن الأشياء والأفعال لا يستند إلى الإسلام، ويصبح الإقدام على الفعل من عدمه قائماً على المصلحة أو المنفعة تماماً كما هو حال الرأسماليين. وقامت جمعيات ومنظمات تعمل على أساس الدمج. وبدل أن يكون عملهم هو الحفاظ على المسلمين والدفاع عن حقوقهم جميعها وتبيان كيفية العيش في بلاد الغرب، والمحافظة على الهوية الإسلامية والالتزام بأحكام الإسلام في نفس الوقت، جبنوا وخافوا وبعدوا عن التحلي بالشجاعة والإقدام.
وكانت الطامة الكبرى بعد أحداث 11/9، فأصبح المسلمون مذنبين حتى تثبت براءتهم، وأخذت الدول الغربية تعمل على إثارة الخوف والرعب، وتُظهر المسلمين أنهم خطر ومنهم مجرمون وقتلة، وهذا سهَّل على الأنظمة الحاكمة في الغرب جرَّ المسلمين نحو الانخراط والانصهار في هذه المجتمع. وخرج على الناس من انعدمت الشجاعة عنده بفتاوى مثل العمل مع المخابرات والدخول في الجيش والمشاركة في الانتخابات وغيرها واعتبار ذلك «واجباً شرعياً». وقد جبنت المؤسسات والمنظمات -في أميركا- الداعية إلى «أمركة» المسلمين عن ذكر ما يتعرض له المسلمون في العراق أو الشيشان أو الصومال، ولا يجرؤون على ذكر مذابح حصلت للمسلمين في العراق مثلاً، مثل حادثة القتل في بغداد عام 2007م التي سربها موقع «ويكي ليك» مع أن الأمريكان أنفسهم رفضوا ذلك واستقبحوه. ومن الغريب المبكي أن يصل الجُبْن بمحامٍ مسؤول في «جمعية إسلامية» أن يتولى الدفاع عن أحد ناشري الرسوم الكرتونية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم. ولم تقم المنظمات بالدفاع عن المسلمين المتهمين من قِبل الدولة الأميركية بالإرهاب إلاّ في حالات خاصة. ولم تقم مثل تلك المنظمات بمحاسبة الرئيس الأميركي -الذي انتخبوه- في كثير من القضايا التي تهم المسلمين مثل فلسطين أو وعوده بالانسحاب من العراق أو إرسال مزيد من القوات إلى أفغانستان. أو تغيير التعامل مع المسلمين، وتغيير الرأي العام تجاههم.
إن الجُبْن السياسي مرض عضال إن استشرى في الأمة أدى بها إلى السكوت عن المطالبة بحقوقها وانحدر بها إلى الدرك الأسفل بين الأمم. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور عن السكوت والمحاسبة، حيث قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْكُمْ قَوْمًا ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» (مسند أحمد). فأيُّ مصيبة وأي حال أسوأ مما فيه الأمة الآن؟! لقد حان الوقت لأن تكف الأمة عن هذا الجُبْن، وآن الأوان أن تنفض الأمة عنها ثوب الذل والخنوع فتتحلى بالشجاعة والإقدام، فتدافع عن حقوقها، وتبين مطالبها دون خجل أو تُقية.