قبرص أرض إسلامية
أدرك المسلمون منذ وقت مبكر أهمية جزيرة قبرص في غزواتهم وفتوحاتهم فجهَّز الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه أسطولاً إسلامياً كبيراً لفتحها شارك فيه كبار الصحابة ومنهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأم حرام بنت ملحان رضي الله عنها والتي توفيت ودفنت في الجزيرة.
وسقطت الجزيرة عدة مرات بأيدي الفرنجة وكانت في كل مرة تُتخذ كقاعدة عدوانية لشن الهجمات المتكررة على السواحل الشامية والمصرية كما حصل مع ريتشارد قلب الأسد الذي استخدمها كقاعدة متقدمة للانقضاض على بلاد الشام، وكانت تُتخذ أيضاً كقاعدة تجميع لعودة جنود الفرنجة إلى موطنهم في أوروبا.
فتحها السلطان المملوكي الأشرف برسباي بعد أن قام الروم فيها بالاعتداء على قوافل التجارة والحجيج في العام 829هـ. ثم عاد الإفرنجيون وسيطروا عليها، فقام العثمانيون في العام 978هـ وفتحوها وضموها إلى الدولة العثمانية التي استمرت في السيطرة عليها لمدة ثلاثة قرون متتالية.
لقد بقيت قبرص جزيرة إسلامية تحت يد المسلمين من ايام الخليفة عثمان بن عفان في القرن الأول الهجري إلى ايام الخليفة العثماني عبد الحميد في القرن الثاني عشر الهجري. فوجود المسلمين فيها هو الاصل وليس وجود اليونانيين. وهي بلد إسلامي وبلد المسلمين الاتراك، واليونانيون فيها انما يعتبرون ذميين وليسوا اصحاب السيادة عليها.
وفي عام 1296هـ (1879م) وفي ظل الضعف الشديد للدولة العثمانية التي كانت منهمكة في حرب ضروس مع الروس، استطاع رأس الكفر الإنجليز بخطة خبيثة استئجار الجزيرة بذريعة الحاجة إليها مؤقتاً مقابل مبالغ مالية تدفع للدولة العثمانية. وأقامت بريطانيا في الجزيرة أكبر قواعدها العسكرية في العالم خارج الأراضي البريطانية، وأصبحت الجزيرة منذ ذلك التاريخ مؤلفة من ثلاثة كيانات: كيان يوناني، وكيان تركي، وكيان بريطاني.
وفي عام 1915م استغلت بريطانيا ضعف الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى فقامت بإلحاق قبرص بإمبراطوريتها، وبعد أن سقطت دولة الخلافة العثمانية وهَبَ عملاء الإنجليز في الجمهورية التركية قبرص لبريطانيا بصورة رسمية قانونية من خلال معاهدة لوزان التي أبرمت عام 1925م، وبعد الحرب العالمية الثانية بدأت أمريكا تزاحم بريطانيا محاولة فرض سيطرتها على جزيرة قبرص، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن والقوى السياسية في قبرص تتنقَّل بين أمريكا وبريطانيا، وما الأحداث والتقلبات السياسية في تلك الجزيرة إلا نتاج لهذه المزاحمة.
ان قضية قبرص اليوم هي صراع بين الانجليز والامريكان وليست نزاعا بين تركيا واليونان فامريكا تريد اخراج بريطانيا من قبرص وازالة القاعدة العسكرية التي لهم فيها وبريطانيا تريد الاحتفاظ بالقاعدة العسكرية، ففي عام 1958م اشعلت أمريكا الثورة في قبرص ضد الانجليز عن طريق اثارة اليونانيين وجعلهم يطلبون الانضمام الى اليونان واتت أمريكا بعميلها جريفاس ليتزعم الثورة وبالفعل قام اليونانيون يقاتلون الانجليز لاخراجهم من الجزيرة وضمها إلى اليونان. فما كان من بريطانيا الا ان دفعت عميلها المخلص المطران مكاريوس ليتزعم الثورة ضد الانجليز وحمل على الانجليز حتى نفوه إلى سيشل ثم دفعت صديقها عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا السابق ليجعل الاتراك القبارصة يعارضون الانضمام الى اليونان وبذلك توصلت الى ضرب خطة أمريكا والاحتفاظ بقاعدتها في قبرص عن طريق اعطاء الجزيرة استقلالها.
وفي عام 1960م منحت بريطانيا الاستقلال للجزيرة تحت ضغط أمريكي، فأقامت فيها نظاما سياسيا طائفيا هشا، ووضعت على رأسه المطران مكاريوس. ثم اشتد الصراع الأمريكي البريطاني على قبرص فحاولت أمريكا التدخل فيها لإخراج الإنجليز من قواعدهم العسكرية في الجزيرة والحلول مكانهم، إلا أن بريطانيا أشعلت نار الفتنة في الجزيرة، واستمرت الحرب الأهلية لمدة عشر سنوات راح ضحيتها سبعون ألف قبرصي تركي مسلم، الأمر الذي استدعى تركيا للقيام بتدخل عسكري، حيث نزل الجيش التركي في شمال الجزيرة في العام 1974م. وتم بذلك التدخل تقسيم الجزيرة فعلياً إلى قسمين: أحدهما في الجنوب وهو الأكبر والأكثر غنى تحت سيطرة اليونانيين، والآخر في الشمال تحت سيطرة الأتراك الذين أعلنوا عن قيام جمهورية قبرص التركية فيه ولم تعترف بها أية دولة في العالم سوى تركيا، وفُرض عليها الحصار.
ثم أعادت أمريكا الكرة ثانية وحاولت التدخل عدة مرات في الجزيرة، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها بسبب السياسة الإنجليزية الخبيثة التي أوجدت صراعاً مزمناً بين الأتراك واليونانيين، وأقحمت الاتحاد الأوروبي في ذلك الصراع، الأمر الذي ميَّع القضية، ورسَّخ الوجود العسكري البريطاني في الجزيرة.
يقول سردار دنكطاش وزير الخارجية القبرصي التركي: “لا أحد يجرؤ على بحث ملف القواعد البريطانية في الجزيرة لأنه يعلم أنه إذا ما فعل ذلك فإنه سيخسر دعم بريطانيا بل وسيكسب عداوتها وعداوة من معها في أوروبا”، وأضاف: “بريطانيا تعلم جيداً أنه في حال التوصل إلى حل للقضية القبرصية وفي حال مصالحتنا مع القبارصة اليونان فإنها ستواجه متاعب كثيرة لأننا قد نفتح ملف الوجود العسكري البريطاني في الجزيرة وأنا كمواطن هنا لا أتمتع بما يتمتع به البريطانيون وقواعدهم من سيادة عليها”.
ثم حاولت أمريكا الرمي بآخر سهامها في القضية القبرصية من خلال المبادرة التي اقترحها الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان والتي تقضي بتوحيد شطري الجزيرة التركي واليوناني، لكن المفاجأة هذه المرة جاءت من اليونانيين الذين رفضوا المبادرة بأغلبية كاسحة في العام 2004م تقارب الـ 75%. والسبب في رفض اليونانيين للمبادرة أن الاتحاد الأوروبي اعترف بهم كدولة شرعية لجزيرة قبرص وضمهم إلى الاتحاد، ولم يشترط عليهم حل القضية القبرصية أولاً أو قبول الحل الذي قدَّمه كوفي عنان، ولم يعاقبهم لأنهم لم يتجاوبوا مع إرادة المجتمع الدولي والأمم المتحدة.
فخطة كوفي عنان بدت لهم بعد احتضان الأوروبيين لهم بمثابة تقديم تنازل للأتراك بلا ثمن، وبمعنى آخر كانت خطة عنان تعني بالنسبة لهم أن يتنازلوا عن جمهوريتهم القبرصية اليونانية الناجحة والمزدهرة لتشكيل جمهورية مشتركة مع القبارصة الأتراك المسلمين، يتقاسمون معهم السيادة والثروة. فكان الخيار الطبيعي أن يرفضوا ذلك طالما أنهم يمثلون بمفردهم قانونياً الجزيرة برمتها.
لقد بلغ الناتج القومي للشطر اليوناني بعد انضمامه إلى الاتحاد الأوروبي 4.9 مليار دولار أمريكي بمعدل 12500 دولار أمريكي للفرد الواحد، وأصبح الاقتصاد القبرصي من أفضل اقتصاديات الدول العشرة التي انضمت للاتحاد الأوروبي في عام 2004م، بينما يعاني الشطر التركي في الجزيرة من حصار خانق، ومن أحوال معيشية مزرية، ومن بطالة وفقر وتخلف.
ولقد طالب رؤوف دنكطاش زعيم القبارصة الأتراك الدول الكبرى، والمجتمع الدولي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي برفع الحصار عن شمال قبرص وخاصة بعد قبول القبارصة الأتراك لخطة كوفي عنان، لكنه تلقى وعوداً بتخفيف الحصار من تلك الجهات لم تتحقق. وعوَّل دنكطاش على حكام العرب والمسلمين لكي يوازنوا كفة الأتراك المرجوحة في مواجهة دعم الأوروبيين للقبارصة اليونانيين لكنه وجد أن هؤلاء مثلهم مثل غيرهم في مساندة الشطر اليوناني من الجزيرة، ولا يريدون الاعتراف ولا التعامل مع الشطر التركي كعادتهم في دعم أعداء الأمة والسير وفقاً لمخططات الدول الكبرى.
وأما الدولة التركية، فإن تلهفها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ أكثر من أربعين عاماً أفقدها هيبتها ووزنها، وأفقد معها أي أمل للقبارصة الأتراك في تحسين أوضاع الشطر التركي السياسية والاقتصادية، وأصبح الأوروبيون يتمادون على الأتراك ويشترطون عليهم أن يعترفوا مسبقاً بقبرص اليونانية كممثل رسمي للجزيرة القبرصية برمتها قبل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وفي 21 أيلول 2005م صدر إعلان أوروبي يؤكد على أن “الاعتراف بجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عنصر أساسي في عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد”، وهذا يعني إلزام الاتحاد الأوروبي لتركيا بالاعتراف بقبرص اليونانية ممثلة لشطري قبرص قبل الدخول في الاتحاد الأوروبي.
لقد وصل الاستخفاف بتركيا إلى درجة أن قبرص اليونانية أصبحت تملك الحق في عرقلة بدء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي باعتبارها دولة عضو في الاتحاد. وقد أعلن المتحدث باسم الرئاسة النمساوية للاتحاد الأوروبي نيكولا دونيغ في 12/6/2006م “أن القبارصة اليونانيين لا يزالون يرفضون التراجع ولو لخطوة واحدة” وذلك في إشارة إلى رفض بدء المفاوضات لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وبهذه الطريقة استطاع الإنجليز الخبثاء تحويل القضية القبرصية إلى قضية أوروبية داخلية بحتة، واستطاعوا رفع أيدي الآخرين عنها لا سيما الأيدي الأمريكية.
وهكذا نجد أن قضية قبرص قد ضاعت أولاً بين بريطانيا وأمريكا أي بين الأوروبيين والأمريكيين، وأن المسلمين الأتراك في الجزيرة هم الخاسر الأكبر في هذا الصراع، وأن الدولة التركية أصبح وضعها مهزوزاً جداً بسبب هذه القضية، وقد أمعن الأوروبيون في ازدرائها واحتقارها، واستغلوا في ذلك تهافتها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. بينما تحسَّن وضع القبارصة اليونانيون وأصبحوا يتمتعون بمستويات معيشية عليا، وباستقرار غير مسبوق، غير عابئين بما يعانيه جيرانهم الأتراك، لأن المجتمع الدولي بات يعترف بهم كممثلين شرعيين لجزيرة قبرص بكاملها، في حين أن الأتراك المسلمين ظلوا يعيشون مضيَّعين على هامش الجزيرة، منبوذين، محاصرين، فقراء، يستجدون العالم ليتمكنوا من مجرد الحصول على حق العيش إن استطاعوا، وإن لم يتمكنوا من ذلك فليس أمامهم إلا الهجرة هائمين على وجوههم في تركيا والعالم. وأما بريطانيا فإنها نجحت في الاحتفاظ بأكبر قواعدها العسكرية خارج الأراضي البريطانية في الجزيرة، بينما تركيا انتهجت سبيل التوسل للأوروبيين كأسلوب مُزْرٍ لتتمكن من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي يفرض عليها شروطاً قاسية ليس أقلها التخلي عن جزيرة قبرص لليونانيين، أو التخلي نهائياً عن الإسلام بشتى مظاهره.
إن الحل الوحيد الجذري والصحيح لمشكلة قبرص الذي ينقذ قبرص وينقذ الأتراك المسلمين فيها هو توحيد شطري الجزيرة تحت سيادة الدولة الإسلامية، وإعادة الجزيرة إلى دار الإسلام، وتطبيق الأحكام الإسلامية عليها، وطرد النفوذ اليوناني والإنجليزي والأوروبي منها كلياً، لتعود جزيرة إسلامية خالصة.
إعداد ابو إياس