تطورات في الموقف الدولي -ج2
أولا: أن الصين لا تمتلك رسالة عالمية. فهي تفتقر أيضا للمبدأ الذي هو أحد أهم عناصر قوة الدل. وأن من يريد أن يتربع على مركز الدولة الأولى في العالم لا بد أن يمتلك الدافع الذي يضره أن يتحمل هذه المسؤولية. والمال والسلاح لا يصلحان أن يكونا دافعا لهذا الأمر، لأن هذا الدور يكون ضعيفا وناقصا، ما لم تحمل الدولة للعالم رسالة عالمية جذابة (مثل أن تقدم بديلا للبنك الدولي، والصندوق الدولي، والتجارة العالمية). فالقوة المادية مهما عظمت وضخمت فإنها سرعان ما تبدد وتمحق ما لم تعتمد على القوة العالمية.
والصين لم تكن يوما من الأيام دولة ذات مبدأ عالمي. فبالنسبة للفكرة الشيوعية، فمنذ صيرورة الصين دولة شيوعية، لم تكن الفكرة الشيوعية الفكرة العالمية الاصلية، ولم تكن سياسة الصين الخارجية قائمة على فكرة الشيوعية، فلم تهتم الصين بنشر الشيوعية عالميا، ولم تكن الامة الصينية تحمل الفكر الشيوعي، فعقائد الصينيين لم تمت للماركسية بصلة، وتصرفاتهم لم تكن سوى طريقة للتعبير عن عدم رضاهم عن الظروف الإقتصادية. وقد قال وزير الخارجية السوفياتي، مولوتوف سنة 1944، (إن شيوعية الصينيين كالفجل، أحمر من الخارج، وأبيض من الداخل، وإن عقائدهم لا تمتّ للشيوعية بصلة). وبينما كان ماو على قناعة تامة بالثورية اللينينية، وبينما كانت مقولاته ماركسية، فإن المنطلقات العميقة لشخصيته كانت بدرجة كبيرة من التقاليد الصينية، فكانت عظمة الصين في نفس درجة الثورة في الاهمية، وكانت الشيوعية بالنسبة له لخدمة الصين، ولم يُرِد الصين لخدمة الشيوعية.
ثانيا: أن شعب الصين بطبيعته انعزالي. فقد بقي المجتمع الصيني مجتمعا محافظا ومنغلقا على نفسه وعلى حضارته وقيمه القائمة على الكونفوشيوسية. ومعلوم أن من يريد أن ينتزع مكانة دولية مرموقة لا بد أن يتصادم مع غيره من الدول, لأن المصالح هنا في تضاد وليست في تقاطع. ويلاحظ أن مشكلة صغيرة بالنسبة للصين مثل مشكلة تايوان وهي على أعتاب بيتها، بل إن الصين تعتبر تايون إقليم انفصالي متمرد, حتى اليوم لم تستطع الصين حل هذه المشكلة, لأن حل هذه المشكلة لا يكون إلا بالصدام العسكري, والعقلية الصينية لا تحب الصدام.
ثالثا: أن اقتصاد الصين- رغم تحسنه في السنوات الأخيرة- يعادل حجم اقتصاد هولندا إذا أخذنا تعداد السكان معيارا. ومن الناحية العلمية فالصين ليست دولة متطورة، بل إنها تحاول وبكثير من الصعوبات أن تتجاوز عتبة العالم الثالث. ويشبه جيمس فالوز، الكاتب في ذي أتلانتك مانثلي، يشبه صناعة المنتجات في الصين “بالوجه السعيد”- ذي هابي فيس- حيث أن أعلى المنحنى الأيسر يمثل المنتج الذي يبدأ بالفكرة والتصميم، ثم يبدأ بالإنحدار في مرحلة التتخطيط الهندسي، ليصل إلى أسفل المنحنى الذي يمثل التصنيع والتجميع والشحن، ثم يبدأ المنحنى بالصعود ممثلا التوزيع والتسويق، حيث الماركات العالمية الأمريكية.
رابعا: أنه إذا ما انهارت أمريكا لتحل محلها الصين، فإن إقتصاد الصين سيخسر كثرا، خاصة أن للصين أكبر حائز في العالم لسندات الخزانة الاميركية يقدر بقيمة تصل الى 895.2 مليار دولار، كما وأن أمريكا المستورد الأكبر للصين، حيث بلغ اجمالي حجم الصادرات الاميركية للصين في عام 2009، بلغ 77.4 مليار دولار لكنها لا تقارن بنحو 220.8 مليار دولار هي حجم صادرات الصين للولايات المتحدة، ثاني أكبر شريك تجاري لبكين.
خامسا: هنا نستذكر تعليق جورج كينان مهندس سياسة الإحتواء في سنوات الحرب الباردة، بالقول بأنه بإمكان اليابان إطلاق يدها في التصنيع كيفما تشاء، مادامت صمامات النفط اللازمه لهذه الصناعات تحت السيطرة الأمريكية. والشئ نفسه ينطبق على الصين. ومن الجدير بالذكر، بأن ارتفاع أسعار النفط سيعمل على إعاقة نمو اقتصاد الصين، خاصة وأن الصين أصبحت ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم.
سادسا: أن الصين تفتقر للعملاء في العالم الإسلامي، حيث أنه أصبح من شبه المسلم به بأن من يتحكم بالشرق الأوسط، يتحكم بالعالم أجمع.
أما تعافي روسيا، فإنه وبعد الطفرة في أسعار البترول والغاز في الأعوام الأخيرة الذي أدى إلى تحسن الوضع الاقتصادي الروسي, وبعد أن جاءت قيادة روسية سياسية جديدة قوية، جعل روسيا تفكر جديا باستعادة تأثيرها السابق. وقد بدأت بالتنفيذ، وكان هذا واضحا في جورجيا وأوكرانيا وقرغيستان، ولقد رأينا أن لروسيا مشاركة في عملية السلام, ولها تحركات في كل منطقة الشرق الأوسط, مثل زيارة مدفيديف لكل من سوريا وتركيا, ولها تدخل في الملف النووي الإيراني.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل لروسيا، بهذا الواقع الجديد من ضعف للغرب وتعافي لروسيا، أن تحل محل أمريكا فتصبح الدولة الأولى في العالم؟
إن هناك عوائق تحول دون ذلك، منها:
أولا: أن روسيا لم تعد تمتلك رسالة عالمية, وهي في أحسن الأحوال تمتلك رسالة إقليمية بترويجها أنها هي وريثة الإتحاد الفاني. فهي تفتقر للمبدأ الذي هو أحد أهم عناصر قوة الدول.
ثانيا: أن القوات الروسية التقليدية قد صارت ضعيفةً بشكل لافت وتحتاج لفرنسا و(إسرائيل) لشراء المعدات الحربية، ونفقاتها العسكرية اليوم لا تمثل إلا ثلث النفقات الحربية الصينية وحوالى جزء من 15 جزء من مثيلتها الأميركية، بل وتحتاج إلى بقاء أمريكا في أفغانستان لكيلا تفرط آسيا الوسطى، حيث سمحت روسيا لأول مرة باستخدام خطوطها الحديدية في نقل الإمدادات للقوات الأمريكية وقوات حلف الناتو في الحرب على أفغانستان، وأعلن ناطق باسم حلف الناتو أن: “الشحنة التجريبية الأولى لقطار الناتو غادرت ريجا ولاتفيا في 14/أيار (مايو) الماضي ووصلت إلى أفغانستان في التاسع من يونيو … وعبر القطار روسيا وكازاخستان وأوزبكستان قبل دخوله أفغانستان”.. كما وانتكست مكانة روسيا الفضائية بعد أن كانت في الدرجة الأولى.
ثالثا: أن الانتعاش الذي بدا على السياسة الروسية بعد غرق أميركا في العراق لم يكن ناجماً عن عوامل قوة داخلية ذاتية في روسيا. بل إن ارتفاع أسعار النفط والغاز خلال السنوات السابقة هو الذي حمل روسيا على تنفس الصعداء والسيطرة على المتاعب الداخلية التي ورثتها روسيا الحديثة عن الدولة الاشتراكية. وعندما انخفض سعر الروبل تحت وقع الأزمة المالية العالمية فقد وقفت روسيا على أبواب الرجوع لعهد المتاعب الداخلية.
رابعا: أن روسيا، كما هي الصين، تفتقر أيضا للعملاء في العالم الإسلامي.
بالمجمل يجد المتابع أن العلاقات الدولية تتجه نحو تعدد الأقطاب، بعد أن كانت أحادية القطب والمتمثلة بأمريكا، كما جاء على لسان رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، ريتشارد هاس (أصبحت القضبية الأحادية جزءا من الماضي). ومع ذلك، فإننا لا نجد أي قوة في العالم يمكنها أن تحل محل أمريكا كدولة أولى في العالم، أو أن تحل محلها في السياسة الدولية، وإن كانت كل دولة من الدول الفاعلة قادرة على ملئ الفراغ في جزءٍ من العالم.
وما أثر كل هذه التطورات الحالية في الموقف الدولي على المسلمين إلا خيرا بإذن الله. فمن ناحية، فإن تشتت الموقف الدولي في دول متعددة يتيح المجال للدولة الإسلامية في حال وجودها، العمل بأريحية للتأثير الدولي. وأما قبل وجودها فإن ضعف الغرب سيؤدي إلى نوع من ضعف نفوذ الغرب في المنطقة الإسلامية، وهذا يؤدي إلى مزيد من إضعاف الحكام المحليين في العالم الاسلامي، وعندما تكتشف الأمة أو بالأدق أهل النصرة هذا الضعف فإن الانقضاض على هؤلاء الحكام سيكون أسهل.
وعندها يبزغ فجر جديد، فجر الخلافة الإسلامية، القوة الوحيدة القادرة على تخليص العالم من أمريكا والرأسمالية، وبهذا الفجر يغاث الناس، وفيه ينعمون، قال تعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله).
بقلم الأستاذ أبي عيسى