Take a fresh look at your lifestyle.

كيفية تحقيق التطور الصناعي والتكنولوجي   الجزء الثاني

 

2 ـ وقف القيام بالمشاريع العمرانية لا المتعلقة بالزراعة ، والاقتصار على ما هو موجود منها فقط . ولا يصح القيام بالمشاريع العمرانية من مثل بناء السدود والأقنية والآبار الارتوازية في الوقت الحاضر ، إلا بما هو ضروري وما لا يمكن الاستغناء عنه ، ولا إصلاح وترميم ما هو موجود. وذلك لأنه ليس المراد القيام بثورة زراعية في البلاد ، بل المراد القيام بثورة صناعية والعناية بالثروة الزراعية عناية كافية لزيادة الإنتاج . لأن الهدف الاقتصادي هو إيجاد التقدم المادي ، وهو لا يكون إلا بالثورة الصناعية ، بل لم يحصل في العالم تقدم في أي بلد إلا بالثورة الصناعية . وأما القيام بالثورة الزراعية والثورة الصناعية معا على أن تكون الصناعة هي رأس الحربة في التقدم ، فإن هذا يحصل حين يكون هناك تقارب بين الثروة الزراعية والثروة الصناعية أما في مثل البلاد الإسلامية فإنها برمّتها بلاد متأخرة ماديا ، وهي تقوم على الزراعة ولا تكاد توجد فيها صناعة ، والصناعات التركيبية والاستهلاكية القائمة فيها لا تجعل البلاد صناعية ، وإنما الذي يحقق التقدم المادي ويجعل البلاد الإسلامية بلادا صناعية هو البدء بالصناعات الثقيلة ، ولهذا يجب أن يوجه الجهد إلى القيام بالصناعات الثقيلة ، وأن لا يقام بالصناعات التركيبية مطلقا ، وأن لا يكتفى بالصناعات الاستهلاكية لأنها لا تحقق الثورة الصناعية في البلاد . أيضا يجب أن يغض النظر عن القيام بالثورة الزراعية لأن القيام بها إلى جانب الثورة الصناعية إنما يكون على حساب الثورة الصناعية ويضعفها ، فيكون القيام بها ضررا على تقدم البلاد بل هو يحد من التقدم الصناعي ويعوقه. ولذلك كان من خطط الدول الغربية صرف البلاد الإسلامية للزراعة وتشجيعها عليها بتمويل مشاريع الري وما شاكلها لإعاقتها عن التقدم وحتى تبقى دولا ضعيفة هكذا للأبد .

 

3 ـ لا توجد طريق آخر لجعل البلاد الإسلامية بلادا صناعية إلا بالبدء بصناعة الآلات أولا وقبل كل شيء ، ثم عدم القيام بإيجاد أي مصنع إلا من الآلات المصنوعة في البلاد . وهذا لا يحتاج إلى وقت طويل كما يروج الغرب ومن وراءه من المضبوعين بثقافته ، وإنما يحتاج تحقيقه إلى بضع سنوات لإيجاد مصانع الآلات ، والى عقدين من الزمن لإقامة الصناعات الثقيلة ، أما القول بأن صناعة الآلات يحتاج إلى وقت طويل فلابد أن نبدأ بصناعة الحاجات الأساسية ، فهو قول هراء ، وهو دسيسة يراد منها تعويض صناعة الآلات وصرف البلاد إلى الصناعات الاستهلاكية حتى تظل سوقا للغرب . على أن الواقع يكذب هذا القول ، فإن روسيا القيصرية حين خرجت من الحرب العالمية الأولى كانت عالة على أوروبا ، ولم تكن قد نشأت لديها صناعة الآلات ، وفي مدة قصيرة وجدت صناعة الآلات في روسيا وها هي قد زاحمت أمريكا على الصناعات الثقيلة وغزو الفضاء . أما القول بأن صناعة الآلات وبالتالي الصناعات الثقيلة تحتاج إلى إيجاد وسط صناعي من مهندسين وعمال فنيين وما شاكل ذلك فهو قول مغلوط ، وتضليل مقصود يراد منه المغالطة والتدليس للحيلولة بيننا وبين تحقيق التقدم المادي في الحياة . لأننا يمكن أن نستعين بأبناء البلاد الإسلامية العاملين في أوروبا وأمريكا في مصانع الحديد والصلب ، ومصانع المحركات ، والأسلحة وما شاكلها ، فإنهم يعدون بمئات الألوف ويمكن الانتفاع بخبراتهم ، وفي نفس الوقت يمكن إرسال المئات بل الآلاف من شبابنا لتعلم صناعة الهندسة الثقيلة ، وصناعات الفولاذ ، وهذا سهل ميسور ، وفي متناول اليد والقول بأننا يجب أن نبدأ بالصناعات الضرورية لنا كصناعة المنسوجات وصناعة الورق وصناعة خام الحرير وما شاكل ذلك ، هو قول باطل يقصد منه التخدير والتضليل عن الطريق الصحيح . ولهذا لا يصح أن يلتفت إلى أي شيء من الصناعات الاستهلاكية وأن يحصر الاتجاه نحو إيجاد صناعة الآلات أولا ومن ثم سائر الصناعات الثقيلة . ولا يقام بأي شيء سوى الضروريات وسوى ما لابد منه لإيجاد صناعات الآلات .

 

4ـ الصناعات الاستهلاكية تبقى كما هي لأنها لا تزال في بداية النشوء، ولذلك لا نسير فيها شوطا أكبر ولا ننشئ غيرها ، بل يجب التوقف عند حد ما هو موجود وتغيير الطريق تغييرا فجائيا وحصره بالاتجاه لصناعة الآلات وللبدء بالتصنيع الثقيل . ولكن ليس معنى تغيير الطريق هو قفل باب الاستيراد ، فإن هذا لا يجوز حسب سياسة الاقتصاد في الإسلام ، لأن لرعاية الدولة أن يشتروا ما يريدون من داخل البلاد وخارجها، بل معنى تغيير الطريق هو إيجاد مصانع الآلات وجعلها كأرقى مصانع الآلات ، وحينئذ يحصل الشراء منها ولا يحصل الاستيراد طبيعيا بشكل تجاري ، من غير حاجة لأن تمنعه الدولة .

 

5ـ إن ما عندنا من مصانع استخراج النفط ومصانع تصفيته ومصانع استخراج غيره من المعادن ومصانع استخراج البوتاس وما شاكل ذلك ، يقتصر عليها دون التوسيع فيها ودون إنشاء جديد لمصانع إلى أن نقوم نحن بصناعة الآلات . فلا نشتري آلات جديدة لاستخراج والتنقيب والتكرير والتصفية بل ننتظر إلى أن نصنع نحن الآلات ، وحينئذ نقوم باستخراج المعادن ونقوم بسائر الصناعات الثقيلة بالآلات التي صنعناها نحن . وأما ما نحتاجه من معادن كالفحم الحجري والنفط والحديد وماشاكلها في حال عدم كفاية ما لدينا منها ، فإننا نشتريها من الغير إلى أن نوجد مصانع الآلات وحينئذ ننشئ المزيد من مصانع استخراج النفط والحديد وماليها من سائر المعادن .

 

6ـ يجب الاعتماد على النفس مهما كانت الصعاب أمام التصنيع . ورغم إننا لا يمكن أن نستغني عن المعرفة والانجازات العلمية الأجنبية إلا أنه يجب إقامة أسوار عالية لمنع النفوذ الأجنبي من إيجاد طريقة إلى عملية التصنيع التي نريد ، وذلك يستلزم فيما يستلزمه إبعاد الشركات الأجنبية والأجانب عامة بما فيهم الخبراء ، لأن ذلك من وسائل تسريب النفوذ الأجنبي إلى البلاد . فإقامة الصناعات يتم عن طريق أبناء البلاد فقط. وقد يتهيأ للبعض استحالة القيام بهذه المهمة إذا ما اعتمدنا مبدأ الاعتماد على النفس ، وهذا ما يروّج له الغرب والمضبوعين بثقافته لكننا نقول أن ذلك ممكن ، فقد قامت روسيا في مطلع هذا القرن بتحويل بلادها من بلاد زراعية متخلفة إلى بلاد صناعية تقف في مقدمة الدول الصناعية الراقية، ورغم أننا لا نؤمن بالنظام السياسي في روسيا إلا أنه استطاع أن يحقق التصنيع على الشكل الذي ذكرناه من الاعتماد على النفس ، وهذا هو محل استشهادنا بتجربته وقد اشتهر عن لينين قوله حين طلب منه تحسين الإنتاج الزراعي بشراء آلات الحراثة ( تراكتورات ) : لن نستعمل التراكتورات حتى ننتجها نحن وحينئذ نستعملها .

 

7ـ تقف في وجه تحقيق التصنيع أمام أي بلد يريد التقدم بعض المخاطر والمصاعب منها :

أولا : أن عملية التصنيع بإقامة الصناعات الثقيلة أمر يحتاج تحقيقه إلى سنوات طويلة قد تصل الى عقدين من الزمن على أحسن الظروف ، وفي هذه الفترة الانتقالية ستكون الدولة التي تسير في هذا الطريق عرضة للمؤامرات السياسية من الداخل والخارج ولا سيما وأنها ستبقى أضعف من الدول المتقدمة إلى أن تحقق التصنيع .

 

ثانيا : إن المقصود من عملية التصنيع هو اللحاق بصاف الدول الصناعية المتقدمة وهذه الدول ليست في حالة جمود بل هي في حالة تقدم مستمر في مستواها التكنولوجي ، فمن يريد اللحاق بها عليه أن يطارد هدفا متحركا والهوة بيننا وبينهم آخذة في التوسع فسرعة تطور الإنجازات التكنولوجية مذهل .

 

ثالثا : إن سيطرة الدول المتقدمة على نظام النقد الدولي وعلى الاقتصاد العالمي يحتم على الدولة الراغبة في التصنيع أن تقيم جزيرة نقدية واقتصادية مغلقة ، وهذا لا يعنيى عدم الاشتراك في التجارة الدولية بل يعنى العمل على أساس الوصول إلى الاكتفاء الذاتي لتقليل اعتماد الدولة على الخارج وخاصة في الحاجات الأساسية ، وأما بالنسبة للتمويل فإنه يجب الحذر كل الحذر من المساعدات والقروض الأجنبية سواء من المؤسسات التي تتستر تحت اسم دولي أو تلك التي تعود إلى الدول الكبرى أو البنوك الخاصة . وهذه القروض والمساعدات تعطى عادة للسيطرة على الدول المدينة وإفقارها . وعليه فإن على الدولة الراغبة في التصنيع مهمة شاقة في شق طريقها بالاعتماد على النفس بالتمويل الذاتي وعدم الدخول في شباك الدول الاستعمارية التي تسيطر على نظام النقد الدولي .

 

رابعا : إن البلد الذي يبدأ في التصنيع من الصفر سوف يعاني من مشكلة قلة الخبرات والأيدي العاملة المدربة أو بتعبير آخر مشكلة قوى بشرية ، وفي هذا المجال فإن للخبرة أهميتها .

 

ورغم أن هذه المشكلة لا يستهان بها وتستحق الدراسة والتخطيط لمواجهتها إلا أنها أقل شأنا من المشاكل السابقة لا سيما وأن أبناء الدول النامية يشكلون قسما غير ضئيل من القوى العاملة في الدول الأوروبية وأمريكا ويمكن الاستعانة بهم .

 

وفي الختام نقول: إن التصنيع فوق كونه ضرورة من ضرورات التحرر من النفوذ الأجنبي ، وأن ذلك لا يمكن أن يتم في العالم الإسلامي إلا على أساس الإسلام كقيادة فكرية ، لا كفكرة روحية فحسب ، فإن التصنيع أيضا يستلزم الوحدة بين المسلمين في كيان واحد حتى يتوفر في هذا الكيان القوى البشرية اللازمة للتصنيع والمتوفرة في بلدان كمصر وتركيا واندونيسيا ، بالإضافة إلى الموارد الأولية والمتوفرة في بلدان أخرى في آسيا وأفريقيا . وهذا كله لن يتأتى إلا ببناء دولة واحدة لكافة الدول التي يتشكل منها العالم الإسلامي ، وهذه الدولة يجب أن تكون سياستها الاقتصادية وكل شيء فيها مبنية على أساس الإسلام ، فإنه بغير الإسلام لا يمكن النهوض بالعالم الإسلامي وتحقيق التقدم التكنولوجي والصناعي فيه والتحرر من التبعية للغرب . غير أن هذا يتطلب من الدول رؤية سياسية نافذة لتصور المشاكل الضخمة التي يقتضي التغلب عليها والتي من ضمنها مشكلة التصنيع التي سبق أن بينا أنها مشكلة سياسية أكثر من كونها مسألة تكنولوجيا ومعرفية . ولذلك كان لابد من التفكير الأصيل الراقي الذي يمكن من الاجتهاد لحل المشاكل الحديثة على أساس إسلامي صاف يعود إلى الكتاب والسنة .

 

 

أبو صالح