وقفات مع القران الكريم- ح6- التغيير
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم} [الرعد/11].
لا يستقيم فهم الآية الكريمة حتى يعرف معنى الباء في (قوم) وفي (أنفسهم) وكذلك معنى (قوم)، وأيضاً معنى (ما).
أما (الباء) فهي للمصاحبة كأن الشارع استصحب تغيير ما في القوم بتغيير ما يلزمه في النفس.
وأما (القوم) فهي تعني الفرد كما تعني الجماعة (المجتمع). أما كيف ذلك فقد قال في القاموس في مادة قوم (جماعة من الرجال والنساء معاً أو الرجال (خاصة) أو تدخله النساء على تبعية) وهذا يتضمن الأفراد كما يتضمن المجتمع، تقول جاء القوم وأنت تعني ثلاثة رجال. فـ “القوم” تعني المجتمع وهو راجع إلى التفسير الذي قدمناه كما جاء في القاموس وأيضاً إلى عُرف الاستعمال: تقول: قريش قوم وهذيل قوم وأنت تعني بذلك المجتمع القرشي والمجتمع الهذلي.
وأما (ما) فهي من ألفاظ العموم وعمومها هنا راجع لتغيير أي شيء في القوم بتغيير كل ما يلزمه في النفس.
هذا هو واقع الآية لغةً أي (حقاً إن الله لن يُغير أي شيء في الفرد أو المجتمع حتى يغيروا كلّ ما يلزم في النفس).
أما واقع الآية فكرياً فهو أن ما يُغير هو إما الفكر وإما العمل. أما باقي الأمور كالسلوك أو أية حالة كالنصر والهزيمة فهي راجعة إلى الفكر والعمل لأنهما الأصل والباقي فروع عن الأصل. إذا عرفنا ذلك فإن تغيير ما يلزم في النفس يصبح معروفاً وهو المفاهيم لأنَّ الذي يؤثر في الفكر والعمل ويوجه الفكر والعمل هو المفاهيم.
أما أن المفاهيم توجه الفكر وتؤثر فيه فذلك لأن المفاهيم هي معاني الأفكار أي المعاني المدرك لها واقع في الذهن لأن الأفكار أحكام على وقائع، وهذه المعاني عند من يحسها ويصدقها تكون مفاهيم لديه، وما يصدقه الإنسان وله واقع مُحَسّ في ذهنه يوجه فكره بلا ريب.
وأما أن المفاهيم توجه الأعمال وتؤثر فيها فلأنّ الأعمال هي ثمرات المفاهيم. والأصل في المفاهيم أنها تنتج عملاً. فمفاهيم الإنسان عن شخص يحبه ويكن له التقدير والاحترام توجه أعماله وتكيفها حسب هذا المفهوم عنده.
والآن أصبح واقع الآية مُدركاً (حقاً ومؤكداً، إن الله لن يغير أي شيء في الفرد أو المجتمع حتى يغيروا ما يلزم من المفاهيم).
والآن، لنعطِ مثالاً لتغيير حالة فردية وآخر لتغيير حالة في مجتمع.
المثال الأول إذا كان حالي أني لا أتتبع الأخبار السياسية التي تجري في العالم، فإن هذا يكون راجعاً إلى ما في نفسي وذهني من أن هذا من فروض الكفايات ولا يلزم الأعيان. فعند تغيير هذه الحال لا بد من تغيير ما يلزم من المفاهيم. فنقول إن المفاضلة لا تجوز بين فروض الكفايات وفروض الأعيان لأن المفاضلة تحصل فقط عند تزاحمها من كل جهة، وأيضاً فإن من فروض الكفايات ما هو لازم للأمة لزوماً شديداً كالخلافة والجهاد. هذا من ناحية. أما من ناحية أخرى فإنه لا بد من إدراك أهمية تتبع الأحداث السياسية والأعمال التي تجري في العالم. فلا بد من أن يفهم أن عدم الوعي السياسي دمّر أمماً والوعي السياسي رفع أخرى فجعلها تنعم بالعيش الرغيد. وبعبارة أخرى فإنه لا بد من أن يدرك الإنسان أن الوعي السياسي هو مسألة بالغة الأهمية. وأيضاً إن الذي يجعل الأمة تضطلع برسالتها الإلهية ووظيفتها الأصلية ليس فقط أفكار الإنسان وأحكامه بل إن تتبع الأحداث السياسية لازم أيضاً وهكذا فإن تغير حالة الفرد يحتاج إلى تغير ما في نفسه.
المثال الثاني: إن الدار التي نعيش فيها حالياً هي دار كفر لأن الأحكام القطعية الثبوت القطعية الدلالة كالزنا والربا الصلاة والجهاد غير مطبقة، فعند تحويل هذه الدار إلى دار إسلام تدرس الكتلة ما يلزم من تغيير مفاهيم لتحويل المجتمع إلى دار إسلام. فتدرس واقع الدار، وواقع المجتمع، ومكوناته التي تعطيه صبغته. فإذا وضح لها في ذلك أهمية الأفكار والمشاعر والأنظمة يتم التركيز على المفاهيم المتعلقة بها لتغييرها، حتى إذا أصبحت هذه المفاهيم واقعاً محسوساً مطبقاً ومصدقاً به أصبحت الدار دار إسلام والمجتمع مجتمعاً إسلامياً.
وهكذا فإن التغيير من حالة إلى حالة سواء أكان المراد تغييره فرداً أم مجتمعاً فإنه يحتاج إلى تغيير المفاهيم في النفوس التي تضبط السلوك، وعندها يتم التغيير المتناسب مع المفاهيم الجديدة.
وصدق الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم}