الدعوة والقوة
قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}
خلق الله سبحانه المخلوقات، وهو تعالى وحده يعلم ما يصلحها، وما ينفعها، وما يقيم حياتها على الخير والهدى. فمن الناس من تؤثر فيه الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، فيتغير مسلكه، ويستقيم أمره، ويقلع عن غيّه. ومن الناس من يعاند ويكابر، وهو يعلم أنه الحق، تقرعه الآيات البينات، والحجج البالغة، ومع ذلك يولي مدبراً كأن لم يسمعها، فمثل هذا تلزمه القوة مع الدعوة، والسيف مع الكلمة، لكي يسير على الدرب السوي، أو يقضى عليه فينتهي فساده وشره.
ومن هنا كان دفع الله الناس بعضهم ببعض عندما لا تكفي الحكمة والموعظة الحسنة، ليقضى على الفساد وأهله، فيعمَّ الخير، ويصلح أمر الناس.{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا} .
ولقد اتضحت هذه الصورة في الإسلام بأجلى معانيها، منذ أن بعث الله رسوله صلى الله عليه و سلم يدعو إلى الله في مكة سراً وعلناً، إلى أن طلب نصرة القبائل واستجاب له الأنصار رضوان الله عليهم في المدينة، فأقام الدولة بين ظهرانيهم واقترنت الدعوة بالقوة، وجاهد رسول الله وصحبه في الله حقَّ جهاده، ليحقّ الحق، وينشر العدل، ويزيل بالقوة من يقف في وجه دعوة الله أن تمتد وتنشر{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه}
وهكذا كانت الدعوة الإسلامية متصلةً وموصلةً لقيام الدولة الإسلامية، فالدعوة لا بد لها من دولة تحميها وتحملها: بالكلمة الطيبة لأصحاب الفطرة السليمة والعقول الرشيدة، وبالسيف لمن كذّب وكفر بالحق بعد إذ جاءه، وطغى واستكبر رغم الآيات البينات التي تعرض عليه، والحجج القاطعة التي تدحض باطله وتصدع سمعه وبصره.
هذه الآية الكريمة من كتاب الله عامة في الدعوة والقوة:
1 – يبين الله سبحانه في بداية الآية أنه تعالى يرسل الرسل للناس مؤيَّدين بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة، الدالة دلالة مؤكدة على صدق الرسول المرسل إليهم، وأنه رسول من عند الله دونما شك أو ريب. كما يبين سبحانه كذلك أنه يرسل مع رسله الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فيقام العدل بينهم، ويرفع الظلم، ويستوفي كل ذي حق حقه.
البينات: الحجج القاطعة والبراهين الساطعة.
الكتاب: اسم جنس محلّىً بالألف واللام فهو لفظ عام أي الكتب وليس كتاباً واحداً بعينه.
الميزان: كناية عن العدل، وهو مشمول بالكتاب المنزل لكنه ذُكر من باب ذكر الخاص بعد العام لإبرازه.
وهكذا فإنَّ الله يرسل رسله بالبينات والكتاب ليهتدي الناس ويحكموا بالعدل.{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} .
2 – بعد أن ذكر الله سبحانه أنه تعالى يرسل رسله بالبينات والهدى ذكر سبحانه بعدها أنه أنزل كذلك الحديد، وهو كناية عن القوة ووسائل القتال ليُنصر دين الله بالجهاد، ويُحقَّ الحق، ويُزهق الباطل. فالقوة هي السبيل لدفع الفاسدين المفسدين المستكبرين المعاندين لحجج الله وبيناته، كما أن القوة هي السبيل لإزالة العوائق أمام إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه.
ثم بيَّن الله سبحانه أنَّ في القوة لإحقاق الحق منافع للناس، فهي تقضي على الظلم والطغيان، وتنشر الأمن والأمان، فلا يخشى ضعيف أن يضيع حقه، ولا يتجرأ قوي على اغتصاب حقوق الآخرين أو اضطهاد المستضعفين. وكل هذا نفع للناس وخير عميم. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }.
3 – وفي خاتمة الآية يبين الله سبحانه أن ميدان القتال هو الذي يميز الخبيث من الطيب، وهو الذي يكشف للناس ما يعلمه الله عمَّن ينصره ومن لا ينصره، أي يظهر للناس من ينصر دين الله ومن يخذله، ومن يثبت في ساحة القتال ومن يفر لا يلوي على شيء.
كذلك يظهر الصادق المخلص في نصر الله، الذي ينصر الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنَّ الله يراه. فهو ينصر الله دون أن يبصره في الدنيا، لكنه مؤمن صادق الإيمان، يقاتل في سبيل الله إيماناً واحتساباً ليرضى الله عنه يوم لقائه. إن هؤلاء الصادقين المجاهدين الناصرين لدين الله يبشرهم الله بنصره فهو سبحانه القوي العزيز، القاهر فوق عباده، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ليعلم الله من ينصره: أي علم ظهور، ليظهر من ينصر الله أمام أعين الناس.
ينصره ورسله بالغيب: (بالغيب) متعلقه بالضمير في ينصره وهو الله سبحانه، أي ينصر الله وهو لا يبصر الله في الدنيا كما قال ابن عباس رضي الله عنه (ينصرونه ولا يبصرونه).
وهكذا فإنّ القوة التي جعلها الله في الدنيا، ووسائل القتال هي المحك الذي يميز الناس: من ينصر الله ممن يخذله، ومن يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمته ممن يقاتل رياءً ونفاقاً. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
إن على حملة الدعوة أن يدركوا مدلول هذه الآية الكريمة فيعلموا أن الدعوة لا بد لها من دولة تحميها وتحملها، فيحملوها كما حملها رسول الله صلى الله عليه و سلم ويقيموا الدولة كما أقامها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، متسنِّمين طريقته، ومهتدين بهديه، فيكون بذلك النصر والفتح القريب{ وبشر المؤمنين }.