وقفات مع القرآن الكريم – ح10- إنا لننصر رسلنا والدين آمنوا
قال تعالى: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ]غافر.
ورد في تفسير ابن كثير: «قد أورد أبو جعفر بن جرير، رحمه الله تعالى، عند قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ]سؤالاً، فقال: قد عُلم أن بعض الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعيا، ومنهم من خرج من بين أظهرهم، إما مهاجراً كإبراهيم، وإما إلى السماء كعيسى، فأين النصرة في الدنيا؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين أحدهما: أن يكون الخبر خرج عاماً، والمراد به البعض، قال وهذا سائغ في اللغة. الثاني: أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم، وسواء كان ذلك بحضرتهم، أو في غيبتهم، أو بعد موتهم، كما فُعل بقتلة يحيى وزكريا وشعيا، سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم، وقد ذكر أن النمرود أخذه الله أخذ عزيز مقتدر. وأما الذين راموا صلب المسيح، عليه السلام، من اليهود، فسلّط الله عليهم الروم، فأهانوهم، وأذلوهم، وأظهرهم الله تعالى عليهم… ولهذا أهلك الله، عزّ وجل، قوم نوح،، وعاد، وثمود، وأصحاب الرسّ، وقوم لوط، وأهل مدين، وأشباههم، وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق، وأنجى الله من بينهم المؤمنين، فلم يهلك منهم أحداً، وعذّب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً. وقال السدي: لم يبعث الله، عز وجل، رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوم من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون، فيذهب ذلك القرن، حتى يبعث الله تبارك ونعالى لهم من ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا، قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا، وهم منصورون فيها. وهكذا نصر الله نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه، وناوأه، وكذّبه، وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة، من بين ظهراني قومه، إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصاراً وأعواناً، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر، فنصره عليهم، وخذلهم وقتل صناديدهم، وأسر سراتهم، فاستاقهم مقرّنين في الأصفاد، ثم منّ عليهم بأخذ الفداء منهم، ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة، فقرّت عينه ببلده، وهو البلد المحرّم، الحرام، المشرّف، المعظّم، فأنقذه الله تعالى به، مما كان فيه من الكفر والشرك، وفتح له اليمن، ودانت له جزيرة العرب بكمالها، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ثم قبضه الله تعالى إليه، لما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام الله، تبارك وتعالى، أصحابه خلفاء بعده، فبلغوا عنه دين الله، عز وجل، ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جل وعلا، وفتحوا البلاد، والرساتيق، والأقاليم، والمدائن، والقرى، والقلوب، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها، ثم لا يزال هذا الدين قائماً، منصوراً، ظاهراً، إلى قيام الساعة. ولهذا قال تعالى: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ] أي يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجلّ» .
وجاء في الظلال عند سيد، رحمه الله: «فأما في الآخرة، فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية، ولا يجد ما يدعوه إلى المجادلة. وأما النصر، في الحياة الدنيا، فقد يكون بحاجة إلى جلاء وبيان.
إن وعد الله قاطع جازم: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ] بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل، ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذَّباً مطروداً، وأن المؤمنين فيهم من يُسام العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، وفيهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد… فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل!
ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويغفلون عن قيم كثيرة، وحقائق كثيرة في التقدير.
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان، وحيّز محدود من المكان، وهي مقاييس بشرية صغيرة. فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضيع الحدود بين عصر وعصر، ولا بين مكان ومكان. ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال؛ لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها. فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها…
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى. وقد يتلبّس بعضها بصور الهزيمة، عند النظرة القصيرة… إبراهيم، عليه السلام، وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته، ولا عن الدعوة إليها.. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك -في منطق العقيدة- أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار، كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار…
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته، ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبه مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال…
ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور، ومن القيم، قبل أن نسأل: أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا؟ …
لقد انتصر محمد صلى الله عليه وسلم في حياته؛ لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض. فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتُصرفها جميعاً، من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة، فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهورة…
وهناك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك. إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا، ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها. وحقيقة الإيمان كثيراً ما يتجوز الناس فيها، وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله.. إلا حين يتجه القلب لله وحده، ويتوكل عليه وحده، ويحس أن الله وحده هو الذي يصرفه، ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة والرضى والقبول. وحين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدم بين يدي الله، ولن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر،.. وذلك معنى من معاني النصر.. النصر على الذات والشهوات، وهو النصر الداخلي الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال» .