أمثال في القرآن الكريم-ح3
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} إبراهيم: 18
لا ريب بأنَّ الأعمال هي خير ما يعبّر عن شخصية الإنسان، ولا سيما لناحية ارتكازها على الإيمان أو الكفر، فإنْ كان الإنسان مؤمناً، أشاعَ الخير بين الناس، بينما تنعكس أعمال الكافر عليهم شرّاً محضاً ، وكما أنَّ الأعمال هي مرآة للنفس، وتعبير عن أفكار الإنسان ومفاهيمه، وبخاصة العقيدة التي يؤمن بها، فإنها أيضاً طريقه إلى الآخرة، وسبيله إلى المصير الذي ينتظره.. فكيف تتبدَّى أعمال الكافرين يوم الحساب، حيث يقف جميع الناس لـرب العالمين؟!
لقد ضرب الله تعالى المثل على أعمال الكافرين بالرماد الذي تذروه الريح في يوم عاصف، فتبدّده هباءً منثوراً، وكأنه لم يكن موجوداً من أصله. وهذا يعني أنَّ كلّ عملٍ، أو سعيٍ أو جهدٍ لا يقترن بنيَّة الإخلاص لله تعالى، فلا نتائج إيجابية له في الآخرة، لأنه سوف يقع في نهاية المطاف في ميزان العدل الإلهي، والله تعالى وحده، هو الذي يحاسب الإنسان على أعماله..
وتظهر الصورة في هذا المثل نقيةً وجليةً، كما في سائر الصور التي تحدد أطرها ومضامينها الأمثال القرآنية؛ فالرماد بطبيعته هشٌّ وخفيفٌ، لا يصمد أمام حركة من الإنسان، أو عامل من عوامل الطبيعة، فكيف إذا فَجَأَهُ يوم عاصفٌ لا تترك رياحه العاتية أيّ شيءٍ تقع عليه إلاَّ هدمته، أو اقتلعته، أو بدَّدته، فهل يبقى شيء من هذا الرماد، أم تذروه تلك الرياح في طريقها، وتحيله إلى ذرّاتٍ مبعثرةٍ، تقذفها إلى بعيدٍ بعيدٍ، حتى تصير وكأنها في عدمٍ؟!.. فأعمال الكافرين كمثل هذا الرماد.. فقد تتكاثر وتتنوّع، وقد يكون لها آثارها الإيجابية أو السلبية في الحياة الدنيا، ولكنها تبقى بلا أدنى فائدة أو نفع يوم الحساب، لأنها إن كانت إيجابية فهم قد نالوا جزاءهم عليها في الدنيا من الشهرة أو الجاه، أو المال.. أما في الآخرة، فهم لا يقدرون ممّا كسبوا في دنياهم أن ينالوا أيَّ شيءٍ من أجرٍ، أو ثواب، لا بل وترتدُّ عليهم أعمالهم السيئة، يومئذٍ، خسراناً مبيناً، باعتبار أنَّ الكسب الحق، والفوز العظيم الذي يرجوه الإنسان من أعماله، لا يكون إلاَّ ثواباً من الله تعالى، وهو سبحانَهُ، الذي يكافىء به عباده الصالحين. والمعنى أنَّ أعمال الكافرين التي تقوم على عدم الإيمان بما جاءت الرسالات السماوية به، وتكذيبها، ومناهضتها، هو ما يجعلها أعمالاً إجرامية، مما يُرتب على عاتق أصحابها العقاب الذي يستحقون يومَ الحساب.. وبذلك تتبدّد كل نتائج إيجابيةٍ لأعمال الكافرين التي قاموا بها في الدنيا، وتذهب جهودهم معها عبثاً، كما يبدّد الريح في يومٍ عاصف الرمادَ الهشَّ الخفيف..
ولو أنصف الإنسان نفسَهُ من نفسه، لوجب عليه أن يتبصَّر بالمردود لأي عملٍ يقوم به تجاه نفسه، أو تجاه الآخرين؛ فما كان من أعماله خالص النية لوجه الله تعالى، موافقاً لشرعه، كان مقبولاً، ونال الثواب عليه؛ وما كان منها لغير الله عزَّ وعلا، بل كان مقصوراً على طلب متاع الحياة الدنيا وغرورها وحدها، فهو غير مقبول عند الله، أصلاً.. ومثل تلك الأعمال التي يُضلُّ بها الكافرون غيرهم، ويكون من شانها الإفساد بين الناس عموماً، والمؤمنين خصوصاً، هي التي تضع على عاتق أصحابها أعباءً ثقيلة من الخطايا والذنوب وتجعلهم مسؤولين يوم القيامة عمَّا كانوا يفترون به على الناس .فهلاَّ وقف الإِنسانُ وقفة تفكيرٍ وتقييم للإعمال التي يقوم بها، ثم تأمَّل في المصير الذي سوف يؤول إليه؟!..
وخلاصة القول أنَّ هذا المثل ينطوي على الأساس العقائدي وعلى نتيجة كل ما يقوم به الإنسان، فما كان عملاً غير مبنيّ على قاعدة من الإِيمان بـالله تعالى، ولا يتمسَّك بالعروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله تعالى، يكون عملاً مفككاً كـالهباء والرماد، لا قوام له ولا نظام، إذ ليس المعوَّل عليه هو العمل وحده، ولكنَّ الباعث على العمل هو الأهمّ والأجدى، لأنَّ العمل حركة آلية، لا يختلف فيها الإِنسان عن الآلة إلاَّ بالباعث والقصد والغاية، فإذا كان الباعث على العمل هو الإيمان بـالله كان جزاؤه في الآخرة فوزاً عظيماً، أما إذا كان الباعث على العمل لا صلة له بالله، فإنه يذهب أدراج الرياح، ويؤدي في الآخرة إلى الخسران المبين. ومن هنا كان التعقيب على أعمال الكافرين بقوله تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ } أي الضلال عن إدراك الحقيقة، والضلالُ عن الإِيمان، والضلال عن الإصلاح الذاتيّ والإصلاح بين الناس وكل ذلك من الضلال البعيد الذي يوقع في المهاوي السحيقة.
ألا، فليتأمّل الإنسانُ مشاهِدَ وصورَ القرآن الكريم، ليتبيَّن له الرشدُ من الغيّ، وليهتدي إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان.
مسلمة