أمثال في القرآن الكريم -ح6
يقول الحقُّ تبارك وتعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ *وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةِ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * [البَقَرَة: 264
تلك مأثرة أخرى من المآثر التي يريد القرآن أن يربِّيَنا عليها، وهي أنَّ الرياء يبطل ثواب العمل، والأذى يحبط أجر الصدقة.. فالرياء مَرض من أمراض المجتمع البشريّ، يدل على ضعف في الشخصية، وسوءٍ في الخُلُق. وطريق هذا الرياء المراوغة التي يسلكها – عادة – كل متلوِّن مخادع يريد الوصول إلى منافع ومكاسب شخصية دون أنْ يحسب في المقام الأول حساباً لكرامته وعزة نفسه وسجيّتها الإنسانية!..
والإِسلام عندما جعل الصدقة ركناً من الأركان التي يقوم عليها هذا الدين، إنما أوصى بها تزكية لنفس المتصدِّق وماله، وحرصاً على أخيه المسلم لكي يمنع عنه غائلة الجوع، ويرفع عنه وطأة الحاجة. ولذلك ينهى الله تعالى الذين آمنوا بألاَّ يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى على مستحق الصدقة، وأنْ يحافظوا على كرامته بأَلاَّ تمتهن بالمن، وعلى شعوره بألاَّ يمسَّه أذى، لئلاّ يسبب له ذلك ألماً نفسيّاً يجلب له التعاسة. وهذا ما يُسقط معنى الصدقة بل ويحيلها شقاءً ونقمةً..
وعندما يَنهى الله تعالى الذين آمنوا بألاَّ يبطلوا صدقاتهم بالمنّ والأذى، فذلك حتى لا يكونوا كـالذي ينفق ماله رياءً أمام الناس، وحباً بالظهور، ولفت الأنظار دون أدنى نيةٍ في نيل جزاء أو فضلٍ من ربّه.. ورياؤه في ذلك دليل على عدم إيمانه بـالله واليوم الآخر، فـمثله في إنفاقه وريائه كمَثَل حجرٍ أملسٍ عليه تراب، نزل عليه مطر شديد، فجرف ما عليه من تراب، وتركه صلباً أملس على أصله.. فالمنّانون الذين يُتبعون إنفاقهم أذًى، هم على شاكلة ذلك المرائي، يذهب إنفاقهم سدىً، لا يقدرون على شيء من فائدة أو منفعة لأنهم لا يجدون له أجراً أو ثواباً في الآخرة وفي هذا يقول رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم) : مَنْ أَسْدَى إلى مُؤْمنٍ معروفاً ثم آذاهُ بالكلام أو مَنَّ عليه، فقد أبطَلَ الله صدقَتَهُ» ؛ بل ويبيِّن الرسول الأعظم أنَّ المنَّان له عذاب أليم يوم القيامة بقوله (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم): «ثلاثةٌ لا يكلِّمُهُمُ اللَّهُ يومَ القيامةِ، ولا ينظُرُ إليهم ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عذابٌ إليمٌ: المَنَّانُ بِمَا أَعْطَى، والمُسْبِلُ إزارَهُ، والمنفِقُ سِلعَتَهُ بالحَلَفِ الكاذِب» . ولذلك كان التعقيب هنا {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ، الذين لا ينفقون ابتغاء مرضاة الله، فلا يستحقون أجراً على أعمالهم، بل ولأنَّ كفرهم في الأصل قد أحبط أعمالهم جميعها وحال دون استحقاق الثواب عليها.
وبمقابل المثل على الإنفاق رياءً، فإن القرآن الكريم يسوق المثلَ على الإِنفاق المثاليّ، أي الإنفاق الذي يرتكز على دعائمَ من الإِخلاص والتقرب إلى الله تعالى، وتثبيت الإيمان في النفس. وهذا الإِنفاق، مهما كانت قيمته، فإنَّ مثوبته قائمة، وجزاءَه لا ينقطع، فالذين ينفقون أموالهم ابتغاءَ مرضاةِ الله سبحانه، وتثبيتاً من أنفسهم، هم أصحاب فضلٍ كبيرٍ عند ربّهم العليّ القدير. فهم ينفقون تصديقاً لوعده تعالى بالثواب، وتعبيراً عمَّا هم عليه في قرارة نفوسهم من الجود، وحب الإحسان، لأنَّ المال معادل للنفس – كما يقال – وقد يكون إنفاقه أو بذله أشق على النفس من القيام بالعبادات الأخرى، حتى تلك التي فيها مشقة مثل الصوم أو الحج.. فالإنفاق النابع من النفس قد يزيد الإِيمان فيها تثبيتاً، ويجعلها أشدَّ بصيرةً في الدين حتى لترى الثواب في الآخرة حق اليقين، ومَثَلُ إنفاق هؤلاء المؤمنين كمثل بستان في مكانٍ مرتفع مستوٍ. وقد سمَّاهُ التشبيه القرآني «ربوة» – أي المكان المرتفع المستوي – التي يكون نبتها عادةً، أحسن، وريعها أكثر من الأرض المنخفضة التي يتجمع فيها الماء.. فإذا هطل المطر شديداً على بستانٍ في ربوةٍ، أعطى ثماراً وغلالاً تعادل ضعفين عمَّا تكون عليه في الموسم العادي، وإذا نزل المطر طلًّا، أي خفيفاً، فإنه يكون كافياً لبقاء البستان على رونقه وجناه: يثمر ويزكو.. وسواءَ كثر المطر عليه أم قلَّ.. فكذلك نفقات الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتاً من أنفسهم على حب الصدقة والخير، فهؤلاء نفقاتهم تزكو عند الله سبحانه كثرت أم قلَّت. والله بما يعملون بصير، فيجازيهم به.
وهذا المثل يبيّن للناس أنَّ الإنفاق قد يكون إما إنفاقاً كثيراً مثل المطر الوابل، أو إنفاقاً قليلاً مثل الطل الخفيف، فالأول يعبر عن سعة الرزق، والثاني عن قلة الرزق، أي ما دون السعة، كما ذهب إليه صاحب المنار إذ يقول: «ووجه الشبه عندي أن المنفق ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفسه هو في إخلاصه وسخاء نفسه وإخلاص قلبه، كـالجنةِ الجيدةِ التربة، الملتفة الشجر، العظيمة الخصب في كثرةِ بِرِّه وإحسانه. فهو يجود بقدر سعته، فإن أصابه خير كثير أغدقَ ووسَّعَ في الإِنفاق، وإن أصابه خير قليل أنفق منه بقدر. فخيره دائم، وبرّه لا ينقطع، لأن الباعث عليه ذاتيٌّ لا عرضيّ كـأهل الرياء وأصحاب المنِّ والإِيذاء، فالوابل والطلُّ عبارة عن سعة الرزق، وما دون السعة».
مسلمة