أمثال في القرآن الكريم الحلقة العاشرة
قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
تأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله .إنه تحذير من ربَّ العالمين لعباده المتَّقين، بل هو الأمر المطلق بالنهي التام، الجازم عن الرجس، الذي هو دنسُ النفس – بصورة مطلقة – ومنه عبادة الأوثان التي هي نجسٌ نفسي وجسدي في آنٍ.. ومن صوره ما كان يفعله المشركون في شبه جزيرة العرب من تعبدهم للأصنام، وتقديم النذور، وذبح الأضحيات عندها !.. وهذا هو الرجس أي الشرك وما يماثله من عباداتٍ، وهو الرجس أو الشرك الذي يأمر الله تعالى باجتنابه !..
و«اجتنبوا قول الزور»، أي الكذب، وتزوير الحقيقة لإظهارها على غير واقعها التي هي عليه، حتى تكونوا بهذا الاجتناب – إن فعلتم – سائرين على الطريق المستقيم، الذي هو سبيل الله الذي لا عوج فيه، غير مشركين به، لأن الشرك بالله – وعلى أية صورة كانت – دنسٌ يصيب العقول، ويلوِّث القلوب، ويشوب نقاء النفس وطهارتها، تماماً كما تشوب النجاسةُ الثوبَ والمكان.. فكل شهادة غير شهادة «لا إلهَ إلا الله»، وكل عبادة غير عبادة الله الواحد القهار، وكل كذب على الله، أو تغيير للحقائق التي يريدها الله، وإظهارها على غير واقعها.. فأيُّ شيءٍ من ذلك يكون افتراءً على الله، وشركاً به.. وكذلك فإنَّ كل اعتقاد أو تفكير أو مقولة بخلاف عقيدة التوحيد إنما هو ضربٌ من الشرك المذموم، الذي يزلُّ الإِنسان باتِّباعه زللاً فادحاً، ويرتكب من جرائه أكبر خطيئة أو معصية في حياته، لأن الشرك بالله لظلمٌ عظيم للنفس، وعظيم جداً.. من أجل ذلك يشبِّه النصُّ القرآنيُّ الإنسانَ الذي يشرك بالله فـكأنما سقط من شاهقٍ، من هذا السماء فوقنا، الذي لا أحد من الخلق يعرف مدى علوه وأبعاده، فتتلقَّفُهُ الطيورُ الجوارحُ، لتمزّق لحمه إرباً إرباً، وتكسّر عظامه قطعاً قطعاً، ثم تبتلعه في حواصلها، أو تذري أجزاءه في كل ناحية .
قال ابن عباس: «يريد تخطف لحمه».. وقال الزجاج: «أَعلَمَ اللَّهُ سبحانه أن بُعْدَ من أشرك بعبادته عن الحق كبُعْد من خرَّ من السماء فاختطفته الطير، فتمزَّق مِلَعاً في حواصلها».
ثم تأتي الصورة الثانية لمن يشرك بالله، فكأنما عصفت به الريح الهوجاء العاتية، وهوت به في مكان عميق، بعيد الغور لا قرار له، فلا يكون له ثمة أملٌ في نجاة، لأنَّ الهلاك محتومٌ عليه عندما تهوي به الريح في مكان سحيق.
فالآية الكريمة ترسم لنا مشهداً مرعباً لمن يشرك بالله جلَّ وعلا. وتتبدَّى في هذا المشهد سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها، وخاصة عند بدء اللفظ (بالفاء) وعند عرض المنظر (بسرعة الاختفاء)، وهي صورة قرآنية صادقة لحال من يشرك بالله، فيهوي من أفق الإِيمان السامق إلى حيث لا قرار له، ولا نجاةَ، بل ضياع في العدم كأنه لم يكن أبداً.
فتأمل صدق هذا المثل ومطابقته لحال من يشرك بـالله، ويعبد سواه، ويستعين بغيره.. ثم انتبه إلى أنك تجد في هذا التشبيه أمرين:
أحدهما: أنه تشبيه مركّب لأنه يُشبِّه من يشرك بالله تعالى بالرجل الذي تسبب في هلاك نفسه هلاكاً لا يرجى معه نجاة، ولأنه يصور حاله بصورة من خرَّ من السماء فاختطفته الطير في الفضاء ثم مزقته مزقاً في حواصلها. أو عصفت به الريح، وهوت به في أوديةٍ سحيقة، بعيدة الأعماق .
وثانيهما: أنه من التشبيه المفرق، فيقابل كل واحد من أجزاء الممثَّل بالممثَّل به. وعلى هذا يكون قد شبَّهَ الإِيمان والتوحيد في علوهما وسعتهما وشرفهما بالسماء، ثم ربطهما بها لأنها هي مصعدهما ومهبطهما.. ثم شبه تارك الإِيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين، من حيث وقوع الهلاك، ومن حيث تأكد الخسران. وقد كنَّى بالطير التي تخطف أعضاءه وتمزقها كل ممزق عن الشياطين التي تغريه وتقوده إلى مظانِّ هلاكه. فكل شيطان يستولي على جزء من تفكيره واعتقاده، كما لكل طير مزعة من لحمه وعظامه. أما الريح التي تهوي به في مكان سحيق فهي هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكانٍ، وأبعده عن الحق، وهو المكان الدون الذي تغطيه ظلمة الكفر والشرك.
مسلمة