Take a fresh look at your lifestyle.

أمثال في القرآن الكريم ح12

 يقول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرْتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ *} [النّحل: 112].
لا غرو بأنَّ الأمان والاستقرار والعدل تعدُّ من الضرورات، والحاجات الأساسية لأيّ مجتمع بشري، ولا يقل أهمية عن تلك المقومات، الشعور بالسلامة، والاطمئنان في نفوس أبنائه؛ فإذا أوتي الناس – مع كل تلك النعم – الرزقَ الوفير والرفاهيةَ في العيش، فذلك فضل من الله عظيم على هذا المجتمع، مما يوجب على كل فردٍ من أناسه عبادة الله تعالى، وطاعته، والسير على هداه، فضلاً عن حمده وشكره في الغدوّ والآصال..
ولا يقل واجب الحمد والشكر من الجماعة، عن واجب الأفراد فيها، وهي ترى الرزق الوفير يتدفق عليها من كل مكان.. وإلاَّ فإنَّ كفران النعم الربانية سوف يجرّ على المجتمع وعلى أهله – جماعةً وافراداً – الويل والثبور، وعظائم الأمور. ولكي تتبيَّن لنا عاقبة الكفر بأنعم الله، فإنَّ القرآن يضرب لنا هذا المثل عن قريةٍ كان الأمن يشيع في ربوعها، والاطمئنان يعمُّ أرجاءها، وتتدفق عليها الخيرات والأرزاق من كل مكان، مما جعلها تنعم بحياةٍ ملؤها الرغد والازدهار، بعيداً عن العوز والجوع، وعن الخوف من غائلة الدهر، وضيق العيش.
ولكنَّ هذه القرية، بدل أن تجعل أنوارَ الإِيمان تتلألأ في ساحاتها، وأناشيد الثناء والحمد تصدح في أرجائها، تتحول عن ذلك كله إلى الكفر بأنعم الله عليها، وجحود رزقه وعطائه، حتى يجيئها حكم الله العليّ القدير، فيبدِّل رزقها بالحاجة، وكفايتها بالجوع، وأمنَها بالخوف، وطمأنينتها بالشقاء، جزاءً لأهلها بما كانوا يصنعون..
ويظهِّرُ المثلُ القرآنيُّ الجوعَ والخوف بالصورة الحسية، فكأننا نراهما يتلبَّسان الناس في تلك القرية كما يتلبَّسُ الثوبُ الجسمَ، لا بل وتتبدّى الصورة بشكل أوضح بالألبسة التي صاروا يرتدونها، والتي تنمُّ عن الفقر والعوز والحاجة، وكل ذلك لكي يجعلهم الله تعالى يتذوقون طعم الجوع والخوف والفقر ، كما كانوا يذوقون طعم الطمأنينة والغنى والرزق الرغيد . فعل في لذع هذا الحرمان وتأثيره في النفوس، ما يجعلهم يشفقون على أنفسهم، فيخافوا من سوء مغبة هذا التحوّل الذي حلَّ بهم، ويغيّروا ما بأنفسهم، علَّ الله يغيِّر ما بهم من سوء الحال.


وَمَثلُ هذه القرية كَمَثل مكة عند بعث «محمد» (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)؛ فقد جعل اللَّهُ فيها بيته الحرام، وجعلها بلداً حراماً، وبلداً آمناً مطمئناً، لا يقع عليها شيء مما كان يقع على القرى المجاورة لها، بل وعلى أهل شبه الجزيرة جميعاً، حيث كانوا عرضةً للغزو والسلب والنهب، والعيش في أسوأ الظروف والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. كما أن الرزق كان يتدفق على مكة من كل مكان، مع الحجيج الآتي لزيارة الكعبة، ومع القوافل التجارية التي تقدم إليها من بلاد الشام واليمن وهي تحمل البضائع من شتى الأنواع والأصناف.. ومع أنَّ وجودها في وادٍ غير ذي زرع، وأرض جدباء لا نماء فيها ولا ثمار، إلاَّ أنه لم ينعدم، ولم ينقطع عنهم رغد العيش، وثمرات الأمن والاستقرار منذ دعاء إبراهيم الخليل (عليه السّلام) الذي يثبته القرآن الكريم بالقول الحقّ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ *} [إبراهيم: 37].. فكان حرياً بأهلها، وقد جاءهم رسولٌ من أنفسهم، حريص عليهم، يبشر بالدين الحق، وديُنُه دينُ إبراهيم الذي أعاد وابُنهُ إسماعيل (عليهم السّلام) بناء البيت المحرَّم الذي ينعمون بجواره بالأمن والطمأنينة.. نعم كان حرياً بأهل مكة أنْ يصدِّقوا هذا النبيَّ الأمين، وأنْ يؤمنوا بدينه ويناصروه!.. إلاَّ أنهم، بدلاً من ذلك، كذَّبوه، وعارضوه، وافتروا عليه بالادعاءات الباطلة، وأنزلوا به، وبمن اتبعوه الأذى ظلماً وعدواناً.. فكان أنْ حاق بأهل مكة الذل، ونزل بساحتهم الهوان، حتى كسرت شوكتهم واضطُرَّ معظمهم إلى التصديق بنبوة محمد (صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم)! والدخول في الإسلام، فعادت مكة آمنةً مطمئنةً، يأتيها رزقها رغداً من كل مكان..

ذلك هو المثل الذي ضربَهُ لنا القرآن الكريم عن القرية التي كانت آمنة، مطمئنة، فكفرت بأنعم الله حتى حاق بها الجوع والخوف.. وهو المثل الذي ينطبق في كل زمانٍ، على أي بلدٍ ينعم بالأمن والسلام، فتبطرُهُ النعمة، ويغرّه متاعُ الحياة الدنيا، حتى ينسى ذكر اللَّهِ، ويكفر بأنعمه.. فكان لا بدَّ أن يذيقه الله – جلّت قدرته – لباس الجوع والخوف، فتحل به الأزمات الاقتصادية، ويعم في أرجائه الخوف، وينتشر فيه الفسق والفساد، وذلك بما يصنع أهله، حتى يصيروا على تلك الحالة المزرية من السوء والشقاء.

 

هذه – مستمعينا الكرام – بعض الأمثال المذكورة في القرآن الكريم ، هذا القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل وفيه دستور البشرية جمعاء .. ،، والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ( إن هذا القرآن مأدبة الله فاقْبَلوا مأدبته ما استطعتم) ، فيه مجد هذه الأمة وعزها وكرامتها وسعادتها في الدنيا والآخرة .  الكتاب الذي قال فيه رسولنا صلى الله عليه وسلم ” إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب الله وسنتي هذه “.. ولكن هجره المسلمون فضلّوا .. ونسأله تعالى الهداية قريباً وأن يعود شرع الله  هو المحكَّم في بلاد المسلمين بقيام دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة وهو على كل شيء قدير .

وإلى اللقاء في سلسلة أخرى جديدة .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 

مسلمة