الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط -ح4- عقبات الفتح وكيفية مواجهتها
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، ونستأنف حديثنا عن الأندلس ذلك الفردوس المفقود ، وقلنا في الحلقة السابقة أن ثم عقبات واجهت موسى بن النصير في طريقه لفتح الأندلس ، فما هي هذه العقبات وكيف تم التغلب عليها .
إن طبيعة المعارك التي خاضها المسلمون سابقاً كانت برية ولم تكن خماك حاجة كبيرة لسفن ضخمة – استثناء بعض المواقع مثل ذات الصواري وفتح قبرص- وكانت المسافة المائية التي يجب على المسلمين قطعها للوصول إلى الأندلس لا تقل عن ثلاثة عشر كيلو مترا، وموسى بن نصير ليس لديه سفنا كافية لعبور هذه العقبة المائية، لتنقل الجنود وتعبر بهم مضيق جبل طارق ليصلوا إلى الأندلس.
فعمد موسى بن نصير أول أمره في سبيل تجاوز عقبات الطريق إلى الأندلس إلى إنشاء السفن؛ فبدأ ببناء الموانئ الضخمة والتي يبنى فيها السفن، وهذ وإن كان يعد أمرا يطول أمده إلا أنه بدأه بهمة عالية وإرادة صلبة؛ فبنى أكثر من ميناء في الشمال الإفريقي، كان أشهرها ميناء القيروان (المدينة التي فتحها عقبة بن نافع).
أما العقبة الثانية فكانت وجود جزر البليار النصرانية في ظهره إن دخل الأندلس ، وقد كان موسى بن نصير قد تعلم من أخطاء سابقيه؛ فلم يخطو خطوة حتى يأمن ظهره أولا، فقام بفتح جزر البليار وضمها إلى أملاك المسلمين، وهو بهذا يكون قد أمّن ظهره من جهة الشرق، وهذا العمل يدل على حنكة وحكمة عظيمة لهذا القائد .
العقبة الثالثة: وجود ميناء سبتة المطل على مضيق جبل طارق في يد نصارى على علاقة بملوك الأندلس
حيث كان ميناء سبتة المطل على مضيق جبل طارق والذي لم يُفتح مع بلدان الشمال الإفريقي، كان يحكمه ملك نصراني يُدعى يُليان أو جريان، وكان لهذا الملك علاقات طيبة بملك الأندلس الأسبق غَيْطَشَة، وغيطشة هذا كان قد انقلب عليه لوذريق أو رودريقو – كما يُنطق في بعض الأحيان – وتولى حكم الأندلس، وكانت العقبة تكمن في خوف موسى بن نصير من أن ينقلب عليه يوليان صاحب ميناء سبتة والذي سيكون في ظهره ويتحد مع لوزريق صاحب الأندلس، حتى وإن كان على خلاف معه، فمن يضمن ألا يدخل يوليان مع لوذريق في حربه ضد موسى بن نصير نظير مقابل مادي أو تحت أي بند آخر؟
وهنا وفقط كان لا بد للأمر الإلهي والتدبير الإلهي أن يتدخل: “إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ” (الحج:38) .ويقول أيضاً :”وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى” (الأنفال:17) . وهذا بالفعل ما حدث وتجسد في فعل يوليان صاحب سبتة وكان على النحو التالي:
– فكر يوليان جديا في الأمر من حوله، وكيف أن الأرض بدأت تضيق عليه وتتآكل من قِبَل المسلمين الذين يزدادون قوة يوما بعد يوم، وإلى متى سيظل صامدا أمامهم إن هم أتوا إليه؟
– كان يوليان مع ذلك يحمل الحقد الدفين على للوذريق حاكم الأندلس ذلك الذي قتل غيطشة صاحبه الأول، وقد كان بينهما علاقات طيبة، حتى إن أولاد غيطشة من بعده استنجدوا بيوليان هذا ليساعدهم في حرب لوذريق، ولكن هيهات فلا طاقة ليوليان بلوذريق ولا طاقة لأولاد غيطشة أيضا به، ومن هنا فكان ثمة عداء متأصل بين صاحب سبتة وحاكم الأندلس؛ ومن ثم فإلى أين سيفر يوليان إن استولى المسلمون على ميناء سبتة؟
– الأمر الأخير الذي دار في خلد يوليان هو أن أولاد غيطشة القريبين منه كان لهم من الضياع الضخمة في الأندلس الكثير والتي صادرها وأخذها منهم لوذريق قاتل أبيهم، وكان يوليان يريد أن يستردها لهم، وكان لوذريق أيضا قد فرض على شعبه الضرائب الباهظة وأذاقهم الأمرّين؛ فعاشوا في فقر وبؤس شديد بينما هو في نعيم دائم ومُلك يتصرف فيه كيف يشاء؛ ومن هنا فكان شعبه يكرهه ويتمنى الخلاص منه.
ومن تدبير رب العالمين أن اختمرت هذه الأفكار جيدا في عقل يوليان – وموسى بن نصير آنذاك قد استنفد جهده وحار في أمره – فإذا به يُرسل إلى طارق بن زياد والي طنجة (على بعد عدة كيلو مترات من ميناء سبتة) برسل من قِبَله يعرض عليه عرضا للتفاوض، أما تدبير العناية الإلهية والمفاجأة فكانت في بنود هذا العرض وهذا الطلب العجيب الذي نص على ما يلي:
نسلمك ميناء سبتة. تلك المعضلة التي حار المسلمون أعواما في الاهتداء إلى حل لها؛ حيث كانت فوق مقدراتهم.
نمدك ببعض السفن التي تساعدك في عبور مضيق جبل طارق إلى الأندلس. وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يقول: سأتم ما لم يستطع المسلمون إتمامه ووقفت عندهم قدراتهم، حتى ولو كان ذلك من قِبَل أعدائهم، وقد علمنا مدى احتياج موسى بن نصير لهذه السفن.
نمدك بالمعلومات الكافية عن أرض الأندلس.
أما المقابل فهو: ضيعات وأملاك غيطشة التي صادرها لوذريق.
وبهذا العرض فقد أراد يوليان صاحب سبتة أن يتنازل للمسلمين عن سبتة ويساعدهم في الوصول إلى الأندلس، ثم حين يحكمها المسلمون يسمع يوليان ويطيع، على أن يرد المسلمون بعد ذلك ضيعات وأملاك غيطشة، فما أجمل العرض وما أحسن الطلب! وما أعظم السلعة وما أهون الثمن!
المسلمون لم يفكروا يوما في مغنم أو ثروة أو مال حال فتوحاتهم البلاد، لم يرغبوا يوما في دنيا يملكها غيطشة أو يوليان أو لذريق أوغيرهم، كان جل هدفهم تعليم الناس الإسلام وتعبيدهم لرب العباد، فإذا دخل الناس في الإسلام كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، بل لو لم يدخلوا في الإسلام وأرادوا دفع الجزية فحينئذ يُترك لهم كل ما يملكون، وسنتحدث عن الجزية في الإسلام بعد قليل.
ومن هنا فكان الثمن هينا جدا والعرض غاية الآمال، فبعث طارق بن زياد إلى موسى بن نصير وكان في القيروان عاصمة الشمال الإفريقي آنذاك (وهي في تونس الآن) يخبره هذا الخبر، فسُرّ سرورا عظيما، ثم بعث موسى بن نصير بدوره إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يطلعه أيضا الخبر ويستأذنه في فتح الأندلس.
وهنا أذن له الوليد بن عبد الملك إلا أنه شرط عليه شرطا كان قد فكر فيه قبل ذلك موسى بن نصير نفسه، وهو: ألا يدخل بلاد الأندلس حتى يختبرها بسرية من المسلمين، فما أدراه أن المعلومات التي سيقدمها يوليان عن الأندلس ستكون صحيحة؟ ومن يضمن ألا يخون يوليان عهده مع المسلمين أو يتفق من ورائهم مع لذريق أو مع غيره على المسلمين؟
وهذا الشرط وإن دلّ فإنه يدل على مدى شعور الخليفة والقائد بعظم مسؤوليته تجاه رعيته ، ويدل على حسه العالي بهذه المسؤولية التي حملها على عاتقه ، وتدل أيضا على ضرورة تحلي القائد سواء أكان خليفة أو قائد جيش بالفطنة والحنكة والذكاء ، وكم يغص القلب بالالم عندما يقارن حال حكام اليوم بأفعال أولئك القادة العظام ، فيجد الفرق الشاسع بين من علم وعمل وبين من عمل ولم يعمل ، بل جار وأجاع وباع وقتل ودمر ،،، فلا حول ولا قوة إلا بالله , نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بقادة أمثال موسى بن النصير وطارق بن زياد قريباً بإذن الله ، فأرحام النساء لم تعقم عن إنجاب مثل هؤلاء ، وهم موجودين ، ولكن يتنظرون نصرة من الجيوش لو أعطيت ، وسيخرجون العالم أجمع من جور وظلمات القوانين الوضعية إلى نور وعدل الإسلام ، نسأله تعالى أن يكون ذلك قريباً إن شاء الله, بقي أمام موسى بن النصير بعض العقبات ، فما هي هذه العقبات وكيف تخطاها ، هذا ما سنتحدث عنه في حلقتنا القادمة إن شاء الله ، فأنتظرونا الأسبوع القادم ومع جديد سلسلتنا ، نراكم على خير وبركة إن شاء الله ،، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته