إعجاز القرآن – الحجّة والدليل – ح2
(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) 88- الإسراء
(الحجّة والدليل):- حلقة-2
الحجّة كما وردت في لغة العرب هي: البرهان. ورد في الصحاح للجوهري: الحجة: البرهان، وتقول: حاجّه حجّة أي غلبه بالحجة. وفي المثل ” لجّ فحجّ”. والتحاج: التخاصم، والمحاجّة هي المخاصمة والجدل بالدليل. قال تعالى: { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ …} ( الأنعام /80 )، وقال تعالى يبين جدال ومخاصمة بني إسرائيل في إبراهيم عليه السلام: { هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ( آل عمران /66 ) .( )
أما الدليل في اللغة: فإنه الطريق أو الوسيلة أو الرأي الذي تُقام به الحجة. ورد في الصحاح الدليل: ما يستدل به، والدليـل: الدال، وقد دلّه على الطريق يدله دلالة ودلالةً ودلولاً. وورد في لسان العرب لابن منظور: الدليل: ما يستدل به . والدليل: الدال، وقد دلّه على الطريق يدلّه دلال. وفي حديث علي رضي الله عنه في صفة الصحابة رضي الله عنهم: (ويخرجون من عنده أدلة)؛ وهو جمع دليل، أي يدلّون الناس ويرشدونهم بما قد علموا، فيدلّون عليه الناس، وهذا يعني أنهم يخرجون من عنده فقهاء. ودللت بهذا الطريق: عرفته، ودلّلت به أدل دلالة، وأدللت بالطريق ادلالا.( )
فالدليل إذا هو الهادي أو المرشد، أو ما تقوم به الحجة من رأي وغيره قال تعالى: { … مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ …} ( سبأ / 14 )، وقال: { … قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى } (طه / 120)، وقال عليه السلام : ( الدال على الخير كفاعله )؛ أي المرشد أو الهادي لأمر من المعروف هو كفاعل ذلك المعروف من حيث الأجر والثواب، أو في نيل الثواب. وقد عرفه الأصوليون فقالوا: (هو ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعا) (4)؛ أي بثبوته وصدقه يثبت ما يدل عليه أو جاء به.
والدليل من حيث نوعه؛ ينقسم إلى قسمين الأول: (الدليل العقلي)، والثاني: (الدليل النقلي) .
أولاً: الدليل العقلي: – وقبل الحديث عن الدليل العقلي وشروطه، لا بد من معرفة العقل وطبيعته معرفةً تسهّل علينا معرفة ما يقوم دليلا على هذا العقل.
قلنا أن الحق تبارك وتعالى كرّم الإنسان، ومن كرامته؛( العقل والتمييز والإدراك)؛ والعقل هو خاصية الربط في دماغ الإنسان، والحكم على الأشياء بهذا الربط. وهذه الخاصية ليست موجودة عند المخلوقات الأخرى كالحيوان، إذ أن الحيوان لا يستطيع الربط بين الأشياء، ويتصرف بناء على الناحية الغريزية فقط؛ سواء أكانت إلهاماً غريزياً، أو إدراكاً أو غير ذلك، فهو لا يرتقي، ولا يبني حياته على الناحية الفكرية لأنها معدومة عنده !!.
إذاً العقل ( التمييز ) أو التفكير هي عملية ربط ما بين الواقع المشاهد المحسوس بإحدى أدوات الحس، وبين معلومات سابقة عن هذا الواقع، ووجود دماغ صالح لإجراء هذه العملية!!.
هذا العقل في الإنسان هو مناط التكليف؛ أي لا تكليف للإنسان بدونه؛ لأن الإنسان لا يستطيع تمييز الصحيح من الخطأ، ولا الحق من الباطل بدون هذا العقل، وبالتالي لا يكلفه الحق تعالى أشياء تنبني على هذا العقل والإدراك بدون وجوده ابتداءً!.. .
هذا العقل الإنساني إذا فيه خاصية الربط والإدراك والتمييز، وفيه خاصية الاقتناع والموافقة إذا أقيمت عليه الحجة والبرهان والعقلي .
فالدليل العقلي إذن: نقصد به الأمور المحسوسة، أو يستند إلى أمور محسوسة التي تقيم الحجة على العقل بشكل قطعي، أو هو ما يُقيم الحجة على العقل بعد إدراكه وفهمه؛ وهو؛ أيّ الدليل العقلي يتعلق بالمحسوساتْ، ومثال ذلك وجود الماء في منطقة الصحراء، دليل عقلي على وجود الحياة في تلك المنطقة، وسماع صوت الطائرة دليل عقلي على وجود طائرة في الجو، ومحدودية المخلوقات المحسوسة دليل عقلي على أنها مخلوقة لخالق خلقها، وأوجدها من عدم، أو هو دليل على وجود شيء قبلها وبعدها لأنه لها بداية ونهاية.
فالدليل العقلي: يقيم الحجة على أمر معين من حيث وجوده أو عدمه، ويكون قطعياً في دلالته، وليس ظنياً لأن الظنّ لا يُثبت وجود الشيء أو عدمه، وهو بمعنى آخر: أمر محسوسٌ له واقع يهدي لشيء معين عن طريق نقله بواسطة الحواس للدماغ، فيقع البرهان القاطع الذي لا شك فيه بالشيء .
أما الدليل النقلي : فإنه يتعلق بالنقل كالرواية بنقل الخبر، أو بالآثار الموجودة في منطقة ما، ويشترط أن يكون قطعياً في إشارته للأمر الذي جاء به؛ فهو إذاً أمرٌ معنوي أو مادي يخبر عن أمر معين بشكل قاطع لا يحتمل التأويل، وإذا احتمل التأويل يبقى خبراً، ولا يرتقي إلى مرتبة الدليل . ومثال الدليل النقلي : جميع روايات الحديث الشريف التي نقلت إلينا عن الرسول عليه السلام بالخبر المتواتر , وكذلك القرآن الكريم – من جهة الرواية، لا الإعجاز-، ومثاله أيضاً في الأمور المادية قبر الرسول عليه السلام، ومكان الكعبة المشرفة، وغير ذلك من أماكن نُقل خبرها بطريقٍ قاطعٍ لا يحتمل الظن جيلاً بعد جيل .
وقد فصّل العلماء المسلمون في موضوع الرواية وثبوتها، واشترطوا لها شروطاً حتى تكون قطعية؛ أي حتى تكون دليلاً يستدل به، ويمكن مراجعة هذا الموضوع في كتب علوم الحديث .
ويمكن إجمال موضوع الدليل وشروطه ( أي حتى يكون دليلاً )؛ بنوعيه العقلي والنقلي في أمرين :
الشرط الأول :وجود شيء معين يراد إثبات حقيقة نسبته لأمر معين، أو إثبات وجوده ونفي عدمه. و الشرط الثاني : الثبوت بالقطع دون أدنى شكّ في هذا النقل، أو الأمر المحسوس.
أما غلبة الظن في إثبات أمر معين – بالعقل، أو النقل – فإنه لا يعتبر دليلاً بالمعنى الصحيح للدليل، وإنما هو مجرد خبر منقول يشتمل إمارة تدل على أمر ما، أما من حيث الحجة والبرهـان والسلطان فلا يمت إلى الدليل بأية صلة، وإنما هو خبر فقط يحتمل الصدق والكذب .
ومن الأخبار الظنية والتي لا تعتبر دليلاً قاطعا، الكتابة والتوثيق في الكتب العادية؛ فهي مجرد أخبـار أو معلومات تنسب أمراً إلى أمر، وتحتاج إلى ما يثبت قطيعتها بالشهادة التي لا تقبل الشك، أو الأمور الأخرى، ومن ذلك أيضاً الصور الفوتوغرافية، أو الأشرطة الصوتية، أو غير ذلك فهذه أيضاً أخبار تحتاج إلى سندٍ آخر يُثبت قطعيّتها، ولا تعتبر وحدها دليلاً، ومنها أيضا الآثار التي تدلّل على حقبة معينه، أو قبور الأنبياء أو الصالحين، أو غير ذلك فهذه كلّها أخبارٌ غير قطعيه، وإنما تبقى في دائرة الظن ( الخبر ) حتى تؤكد بأمر آخر يثبت قطعية نسبتها إلى الخبر دون أدنى شك. ولا يعني بقاؤها في دائرة الظن أنها تُكذّب ولا تصدق، وإنما يعني أنها تُصدق بشكل يغلبُ فيه الظن على نسبه هذا الأمر لما ينسب إليه، وذلك كروايات الحديث الشريف غير المتواترة أي ما ورد بطريق آحاد الرواية.
هذا ما يتعلق بالحجة والدليل بشكل موجز، وسنتحدث في الحلقة القادمة – بإذنه تعالى عن موضوع الحجة والدليل في اليهودية والنصرانية
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته