محاضرة الدولة المدنية بين الشرع والواقع
منذ عهد الاستعمار الحديث الذي حل بربوع المسلمين، الذي سموه زورا وبهتانا بعصر التنوير، بدأت تطرق آذاننا ألفاظ لمسميات لم نسمع بها من قبل ذلك نحن ولا آباؤنا، من ذلك كلمة “الدولة المدنية” التي يبشر القائلون بها والداعون إليها، بأن كل أزمات المسلمين في العصر الحاضر من الاستبداد السياسي إلى التخلف التقني، إلى الفقر والبطالة وتدني الخدمات، أن كل ذلك سيزول بمجرد أن تتحول دولنا إلى دول مدنية، ولما كانت المنافع المعلقة على هذا التحول منافع كبيرة يحرص كل إنسان يريد الخير لأمته ومجتمعه على الحصول إليها، كان لا بد لنا من معرفة مدلول هذا اللفظ وحقيقته قبل قبوله والدعوة إليه، حتى لا نذهب إليه ثم يتبين لنا ما فيه من الفساد العريض، لكن بعد أن يكون فات القطار، فماذا تعني الدولة المدنية؟
هل يراد بالدولة المدنية، التعليم الحديث واستخدام التقنية المعاصرة في شتى مناحي الحياة والإدارة الحديثة، والتوسع في العمارة وإنشاء الطرق السريعة؟ قد يكون هذا بعض المطلوب، لكن هل هذا هو المطلوب أو كل المطلوب؟ وهل يكفي أم لا بد من شيء آخر؟ وهل الشيء الناقص يعد جوهريا أو ثانويا؟ ولما كان الحديث طويلا متشعبا لكثرة المتكلمين في ذلك فقد لا نتمكن من إيراد كل ما قيل في الموضوع، لكننا نأمل أن تكشف لنا هذه الورقة عن حقيقة ذلك الأمر.
بالتقليب في كتب المسلمين السابقة التي تحدثت عن الأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية لا نجد لهذا المصطلح وجودا مع أن مفرداته “الدولة” و”المدنية” هي من مفردات لغتنا، مما يتبين معه أن المصطلح مستورد من بيئة غير بيئتنا-وهذا في حد ذاته ليس عيبا، لو كان لا يحمل مضمونا مخالفا لما هو مقرر في ديننا-وعليه فإن محاولة البحث عنه في تراثنا لن تجدي شيئا، وعلينا أن نبحث عن معناه في البيئة التي ورَّدته إلينا ثم ننظر في معناه في تلك البيئة هل يناسبنا فنقبله أم يتعارض مع ديننا فنرفضه؟ .
ولعل هذا ما دعا بعض الكتاب إلى القول: “بما أن مصطلح الدولة المدنية مصطلحات نشأ في الغرب أساساً، فلا بد قبل أن نسعى إلى تطبيقه على واقعنا، أو نقرر رفضه وقبوله اجتماعياً ودينياً، أن نستوعب معانيه كما هي في الثقافة التي أنشأته، وهل يتعارض مع الإسلام أو يتفق معه” .
لكن عدم وجود المصطلح نفسه في تراثنا، هل يعني أن المضمون الذي يحمله-سواء بالسلب أو الإيجاب-لم يكن موجود أيضا؟.
الدولة المدنية: “هذا مفهوم مترجم ومعرب من الثقافة الغربية الحديثة ويقصد به الدولة التي تستقل بشئونها عن هيمنة وتدخل الكنيسة، فالدولة المدنية هي التي تضع قوانينها حسب المصالح والانتخابات والأجهزة والتي في نفس الوقت لا يخضع لتدخلات الكنيسة” والكنيسة في الغرب كانت هي راعية الدين والممثلة له، فاستقلال الدولة المدنية عن تدخل الكنيسة ووضعها للقوانين حسب المصالح، معناه عند القوم استقلالها عن الدين وهو ما يعني أن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية.
فمن الناحية التاريخية إذا رجعنا إلى أصل اصطلاحها الغربي نجد أن للدولة المدنية مفهوما فلسفيا- سياسيا مناقضا للدولة الدينية (الثيوقراطية) والتي يتأرجح مفهومها (نظريا) بين حكم رجال الدين وتحكيم الدين نفسه في السياسة بغض النظر عن طبيعة من يحكم به، ويتمثل مفهومها عمليا بتنحية الدين عن السياسية مطلقا باعتبار الدين هو مجموعة قوانين إلهية مميزة للدولة الدينية، كما نجد أن لمفهوم الدولة المدنية بعدا فلسفيا خضع للتطور تدريجيا منذ ما قبل القرن الثامن عشر في فلسفة أرسطو وفي المدارس الفلسفية وأصبح موضوعا جدليا في علم الاجتماع تبنته حركات الإصلاح في الغرب على مدى قرنين من الزمن فكانت الدولة المدنية بمبدئها الرافض لتدخل الدين في السياسة دولة علمانية تشكل إطارا للانعتاق من ديكتاتورية الكنيسة وفي الوقت نفسه تشكل قالبا سياسيا قابلا لاستيعاب أي نظرية سياسية تواقة للتغيير من أجل التنمية والحرية.
وبالرجوع لترجمة كتاب جون لوك (محاولة في الدولة المدنية) فقد قرر فيه المبدأ الذي تنطلق منه الدولة المدنية (الحرية والمساواة) والحرية عنده لا ضابط لها إلا العقل البشري، وقرر أيضا أن الدولة المدنية ترتكز على سيادة الأمة أو المجتمع لا العاهل، وأنه ليس لأي جهة كانت سماوية أو أرضية سلطة على قوانين الدولة المدنية لأنها تتلقاه من الأفراد أنفسهم. فتجد أن خلاصة ذلك كله أن الفرد يصير صنما وتدور كل الاهتمامات حول ما يريده هو لا ما يريده له خالقه (وكأنه خلق ليكون عبدا لذاته) .
فإذا ذهبنا إلى من قَبِل هذا المصلح في بيئتنا الإسلامية لننظر كيف تلقوه عن الغرب وكيف يفهمونه، فإننا نجد من يقول مبينا خصائص هذه الدولة: والدولة المدنية هي الدولة التي تقوم على المواطنة وتعدد الأديان والمذاهب وسيادة القانون، ومن يقول: الدولة المدنية هي الدولة التي يحكم فيها أهل الاختصاص في الحكم والإدارة والسياسية والاقتصاد … الخ وليس علماء الدين بالتعبير الإسلامي أو ” رجال الدين ” بالتعبير المسيحي”.
وهناك من يقول: الدولة المدنية هي دولة المؤسسات التي تمثل الإنسان بمختلف أطيافه الفكرية والثقافية والأيدلوجية داخل محيط حر لا سيطرة فيه لفئة واحدة على بقية فئات المجتمع الأخرى، مهما اختلفت تلك الفئات في الفكر والثقافة والأيدلوجيا.
وهناك من يقابل بين الدولة المدنية والدولة البوليسية فيزعم أن كل دولة ليست مدنية هي دولة بوليسية قائمة على القمع والظلم بغض النظر عن أي انتماء عقدي، وكلامه هنا يعني أن الدولة الإسلامية دولة بوليسية لا يمكن القبول بها، لأنها من وجهة نظره ليست دولة ديمقراطية لكن هذا الكلام إذا أُخذ مفصولا عن لواحقه فقد لا يتبين منه شيء، فهو كلام محتمل يسهل التخلص من لوازمه، لذا لو رجعنا إلى تفصيلات الكلام فإنها تكشف كثيرا من هذا الإجمال أو الغموض.
يقول أحد الكتاب: نريد أن نتجاوز التسميات إلى المضامين أي أن المضمون للفكرة هي: قيام الدولة على أساس مدني، وعلى دستور بشري أيا كان مصدره، وعلى احترام القانون وعلى المساواة وحرية الاعتقاد، ويزيد الأمر تفصيلا فيضيف: نقبل وننادي وندعم الدولة المدنية الحديثة القائمة على سلطة الشعب في التشريع. ويقول كاتب أخر: في الدولة المدنية يضع الإنسان قوانينه التي تنظم حياته كونه أعرف بأمور دنياه، ويستمد من قوانين دينه القوانين التي تنظم علاقته بربه، ليكون مؤمنا لا يمنح لنفسه الحق أن يكون مدعيا لامتلاك الحقيقة ومفسرا وحيدا لمفاهيم الدين، مما يجعل الدولة كهنوتية تخضع لحكم الكهنوت وليس لحكم القانون ، فالدولة المدنية في فهمه تعني استقلال الإنسان بوضع التشريعات التي تحكم أمور الحياة، وحصر الدين في المفهوم العلماني الذي يقصر الدين على الشعائر التعبدية في معناها الضيق.
وهناك من يصرح تصريحا دون مواربة أو تلاعب بالألفاظ أن الدولة المدنية تعني الدولة العلمانية، فهذا كاتب يقول في مقال له بعنوان لماذا ننادي بالدولة العلمانية؟: “ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة، وأقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة،… إن إقامة الدولة المدنية العلمانية وفق الصورة المنوه عنها، باتت ضرورة لإخراج مجتمعاتنا المتخلفة من شرنقة الجدل وحالة اللاحسم حول الكثير من القضايا الصغيرة والكبيرة التي لا تزال تراوح مكانها بسبب إقحام الدين فيها وبالتالي الاختلاف المرير حولها” ، وهذا كاتب آخر يقول: ” لا يمكن بناء الدولة المدنية في ظل الدولة المذهبية أو الدينية المجردة من العلمانية”. وهذا كاتب يضع الشروط الأساس لبناء الدولة المدنية فيقول : “استكمال بناء الدولة المدنية الحديثة بما يتطلب من خلو المجال العام من كل الإِشارات والرموز الدينية، حتى يصبح من الرحابة إلى الحد الذي يسع فيه كل المختلفين. وأن تجرى السياسة على أساس المصلحة، وأن يكون التشريع تعبيرا عن تنوع الأمة”.
ويرى البعض أن المسألة هينة وأنها مجرد اصطلاح والاصطلاح لا مشاحة فيه كما يذكر أهل العلم، وعلى ذلك فهم يقررون إن الدولة في الإسلام مدنية ليست دينية، بينما دستورها من القرآن والسنة،: “إن الدولة مدنية لا دينية، أما مصدر الدستور والقانون فيها فحتما هو الكتاب والسنة ومورث الأمة فقهاً وفكراً، والدولة المدنية في عصرنا هي دولة المؤسسات التي تحكم من خلالها” ، وهذا لا شك فيه محاولة للتوفيق بين الأفكار الغربية وبين ما هو مستقر في الشريعة بلا خلاف بين أحد من الأمة، إذ لم يدَّع أحد أن للأمة أن تشرع بمحض إرادتها وفق ما تراه مصلحة من دون التفات إلى موافقة الشريعة أو مخالفتها، لكن هذا الكلام في الحقيقة يحمل التناقض في ثناياه، إذا كيف نقول عنها إنها لا دينية ثم نقول في الوقت نفسه إن دستورها هو الكتاب والسنة، فمعنى كونها لا دينية أنها لا ترتبط بالدين، وكون دستورها الكتاب والسنة أنها ترتبط بالدين، وهذا تناقض، وهذه المشكلة يقع فيها من يحاول التوفيق بين المختلفات في الظاهر، من غير إزالة أسباب الخلاف الحقيقية.
والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في التسمية أو الاصطلاح، فقد كان بالإمكان أن تُسمى الدولة في الإسلام دولة مدنية أو غير ذلك من الأسماء، لو لم تكن تلك المصطلحات ذات استعمال مستقر مناقض للشريعة، ومن ثَمَّ يصير استعمال هذا المصطلح لوصف الدولة في الإسلام سببا في اللبس وخلط الأمور، لأن هذا الاصطلاح لم يعد اصطلاحا مجردا وإنما صار اصطلاحا محملا بالدلالات التي حملها من البيئة التي قدم منها.
فإذا كان بعض المتكلمين بهذا المصطلح والآخذين به يقولون بمرجعية الشريعة، فما الذي يحملهم على الإصرار على استعمال مصطلح أقل ما يقال فيه أنه مصطلح مشبوه، يدعو استعماله إلى تفرقة الأمة لا إلى جمعها، كما يمثل نوعا من التبعية الثقافية للغرب، في الوقت الذي لا يوجد فيه أي مسوغ مقبول للإصرار على هذا الاستعمال.ومما هو مقبول في العقل السليم أن الكلمة ذات المعنى الصحيح إذا كانت تحتمل معنى فاسدا فإنه يعدل عنها إلى كلمة لا تحتمل ذلك المعنى الفاسد ، وهذا الأمر المعقول قد أرشد إليه القرآن حينما قال الله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: “نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص -عليهم لعائن الله-فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا. يورون بالرعونة” .
إن الدولة المدنية التي يجري عنها الحديث هي دولة علمانية، “هذا الاصطلاح (الدولة المدنية) هو مطاطي ينكمش في أحسن حالاته ليحاكي الغرب في كثير من مناهجه السياسية في الحكم مع الحفاظ على بعض الخصوصيات، ويتمدد حتى يصل إلى أصل استعماله دولة علمانية صرفة” ، ”ومن وصف الدولة الإسلامية بأنها دولة مدنية وقع في خطأ … ذلك أن الدولة المدنية تنكر حق الله في التشريع، وتجعله حقاً مختصاً بالناس، وهذا بخلاف الدولة الإسلامية، بل إن هذا يخرجها عن كونها إسلامية، ويُسمّى هذا النوع من الحكم في الإسلام بحكم الطاغوت. وكل حكم سوى حكم الله هو طاغوت”.
والله نسأل أن يأخذ بأيدينا جميعاً لرفع رايته وإعلاء كلمته في القريب العاجل إنه السميع المجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله