ودولة الحق إلى قيام الساعة
عندما وقع فرنسيس الأول ملك فرنسا أسيرا فى يد الإسبان عام 1526م، أرسل إلى السلطان العثماني سليمان القانوني رسالة استغاثة ونجدة، فبعث إليه السلطان رسالة يعرّفه بمن هو السلطان القانوني وعلى أي البلاد والبحار والأقاليم يحكم ويهيمن، قال له فيها: «أنا سلطان السلاطين وبرهان الخواقين ،أنا متوج الملوك ظلّ الله في الأرضين ،أنا سلطان البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر والأناضول والروملّي وقرمان الروم ،وولاية ذي القدرية ،وديار بكر وكردستان وأذربيجان والعجم والشام ومصر ومكة والمدينة والقدس وجميع ديار العرب والعجم وبلاد المجر والقيصر وبلاد أخرى كثيرة افتتحتها يداي بسيف الظفر ولله الحمد والله أكبر». وبالفعل أرسل إليه قوة عسكرية حررته من الأسر.
هكذا كانت دولة الإسلام عزيزة قوية، ناصرةً للمظلومين منذ نشأتها الأولى، فلم تمض أكثر من خمسة عشر عاماً على قيام دولة الإسلام في المدينة، حتى استطاعت هذه الدولة الفتية القضاء على أعظم الإمبراطوريات في ذلك الحين، إمبراطورية الروم التي أزال المسلمون نفوذها في معركة اليرموك، وإمبراطورية الفرس التي أبادها المسلمون في وقعة القادسية، ثم ما لبثت طويلاً حتى تربعت تلك الدولة الفتية على عرش السيادة الدولية بلا منازع.
وبقيت دولة الإسلام الأولى في العالم مع مرورها بفترات انحدار وتقهقر جرّاء ما كان يطرأ على الأمة من ضعف فكري، فقد ابتليت الأمة أول ما ابتليت بالغزو الصليبي في القرن الحادي عشر الميلادي وذلك من جراء ضعفها وتشرذمها وسوء تطبيقها لمنهج الله، فبدأ الصليبيون ينهشون من أطرافها حتى وصلوا قلبها في بيت المقدس، ولكنها سرعان ما نهضت من كَبْوَتها، وآبت القلوب إلى بارئها، فلمّت شملها بقيادة واعية مخلصة، وهزمت عدوّها في يوم عظيم من أيام الله، يوم وقعة حطين. ثم ما لبثت أن أصابها الضعف والهزال الفكري مرة أخرى، فتشتت قواها وذهبت ريحها بين الأمم، ما أغرى التتار بها، فاجتاحوا عاصمة الخلافة في بغداد، وقتلوا الخليفة العباسي وعاثوا في ارض الإسلام الفساد، ولكن ما لبثت الأمة أن ثابَتْ إلى رُشْدها، فاستجمعت قواها وهزمت المغول شرّ هزيمة في عين جالوت لتقف على قدميها من جديد.
وهكذا مضى تاريخ هذه الأمة العظيمة، من شاهق إلى شاهق، يتخلله كبوات وهفوات هنا وهناك، إلاّ أنه في مجمل الأحداث كانت الأمة سيدة الشرق والغرب بلا منازع وعلى مدى قرون عديدة، أوصلت الإسلام من إندونيسيا شرقاً إلى الأندلس غرباً، ودانت لها قوى الشرق والغرب،أخذت البلقان من قلب أوروبا، وحاصرت «فينّا» عاصمة النمسا، ودكّت حصون فرنسا حتى وصلت أعتاب باريس، ودفّعَت أمريكا الجزية مقابل السماح لسفنها المرور في البحر المتوسط، وبلغت قوتها الآفاق حتى أُطلق على جيشها وصف «الجيش الذي لا يُقهر» لكن وبعد قرون من هذا الإرتفاع أخذ الضعف والهزال يصيبها شيئاً فشيئاً حتى تكالبت عليها دول أوروبا مجتمعة في الحرب العالمية الأولى وأسقطت الخلافة الإسلامية، وقطّعت أوصالها واستأصلت من قلبها بيت المقدس وأهدته ليهود، الأمر الذي أدخل الأمة في حالة غيبوبة كادت تودي بحياتها ولكنها لم تمت، بل إنها بدأت تستعيد عافيتها شيئاً فشيئاً، فقد آلمها ضياع القدس، وهزتها جراحات المسلمين في أفغانستان والبوسنة والشيشان وكشمير، وشعرت بالألم والأسى عندما حطّت أمريكا أقدامها في جزيرة العرب لتضرب أبناء الأمة في العراق (حرب الخليج)، ثم ما لبثت أن شعرت بالصفعة التي هزّت أركانها عندما احتُلت العراق وأفغانستان بعد أحداث أيلول فقامت تعلن رفضها للظلم والهوان حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من الإنتفاض على عملاء الغرب وأعوانه في أغلب دول العالم الإسلامي.
إنّ هذه الثورات المباركة التي تعيشها الأمة اليوم هي خير دليل على حيوية هذه الأمة وإنها لم تمت ولن تموت بإذن الله ما دام الإسلام حياً في نفوس أبنائها، إن ما يجري في الأمة اليوم يذكرنا بقول المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه البخاري: «مثلُ المؤمنينَ في توادّهم و تَعَاطفِهِم و تَرَاحُمِهم كمثلِ الجَسدِ الواحدِ إذا اشتكى منهُ عُضو تَداعى لهُ سائرُ الأعضاءِ بالحُمّى و السّهَر» فما أن انطلقت شرارة رفض الظلم والاستبداد من تونس الخير حتى وصلت إلى أهل مصر الكنانة لتطيح بفرعون جثم على صدور الناس عقوداً من الزمن، ثم ما لبث هذا الإحساس الذي يدل على وحدة الأمة شعورياً أن انتقل إلى أهل اليمن الأبطال، مزلزلاً عرش عميل من عملاء الغرب بل يكاد أن يزيله إن شاء الله، ثم تنتقل نسمات العزّ والتغيير إلى الغرب، إلى ليبيا المختار معلنةً لطاغية ليبيا أن الأمة ما عادت تقبل الضيم والذل بعد اليوم، وهكذا تتداعى سائر أعضاء الأمة بالحمى والسهر من البحرين إلى سوريا إلى السعودية إلى المغرب إلى الأردن لتعلن للعالم وحدة شعورها وتعاطفها وتلاحمها في مشهد قلّما تجد له نظيراً في هذا الزمان.
لقد صدق في هذه الأمة قول الحق سبحانه: «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» (المؤمنون: 52) فبالرغم من كل المحاولات التي قام بها الغرب وأعوانه من الحكام العملاء لتمزيق هذه الأمة وتشتيتها بحدود وهمية مصطنعة، إلا أن ذلك لم يَفُتَّ في عَضُدِها، ولم ينجح في كسر وحدتها وارتباطها العَقَدي، فهذه أمة قد حباها اللهُ بوصف أنها «خيرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاس»، صحيح أنها أمة من البشر، يصيبها ما يصيب باقي الأمم من ضعفٍ وقوّة، وارتفاعٍ وانخفاض، إلا أن ما يميّز هذه الأمة عن باقي أمم الأرض أنها أمة حاملة رسالة، وأي رسالة! إنها رسالة الحق سبحانه، رسالة الخالق البارئ لهذا الكون، رسالة الهدى والنور التي أنزلها على محمد عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين وإلى يوم الدين. فهذه الرسالة العظيمة هي التي ميّزت أمة محمد عليه الصلاة والسلام عن باقي الأمم، قال تعالى: «تأمرونَ بالمَعْروفِ وَتَنهَونَ عنِ المُنكر» (آل عمران: 110) ولكن إن تخلفت عن هذه المهمة السامية، أصابها ما أصاب باقي الأمم من ضعفٍ وهوان وربما أذلّها الله أكثر من غيرها لتَعْتَبِر وترعوي وتعود إلى رُشدها، وهذا ما عبّر عنه عمر بن الخطاب عندما قال لأبي عبيدة: «نحن أمة أعزّنَا اللهُ بهذا الدين، فإن ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا الله».
لقد مرت على الأمة سنوات عجاف، عانت خلالها ما تعاني أمتنا اليوم من ضعف وتشرذم، وصراع ونزاع وتكالب على الدنيا، الأمر الذي أغرى الصليبيين في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي أن يغزوا ديار الإسلام، وقد تمّ لهم ذلك وأحتلوا بلاد الشام، واجتاحوا بيت المقدس وقتلوا فيها ما يزيد على السبعين ألف نفس مسلمة حتى جرت الخيل بدماء أبناء المسلمين، ودانت بلاد الشام لحكم الصليبيين ما يقارب المئتي عام، إلا أن الأمة لم تستطع التخلص من الغزو الصليبي إلا بعد أن أدركت أن ذلك لا يتم إلا بالعودة إلى الإسلام والوحدة تحت قيادة واحدة، وبدأت فعلاً الإلتفاف حول أبناء الأمة المخلصين من أمثال عماد الدين زنكي ومن بعده ولده نور الدين زنكي الذَيْنِ وحّدا إمارات الشام والعراق، حتى جاء زمن الحاكم القوي صلاح الدين الأيوبي الذي جمع تحت رايته كُلاً من الشام والعراق ومصر، فما كان دحر الصليبيين واسترداد بيت المقدس إلا مسألة وقت ونتيجة طبيعية لتلك الوحدة، ليتأكد للأمة تلك الحقيقة البشرية والسنة الإلهية التي لن تتخلّف إلى يوم الدين.
إنّ الأمور بخواتيمها، وإنّ النصر لهذه الأمةِ، طال الزمانُ أم قَصُر، وما هذه الإنتكاسة التي مرت على أمة الإسلام إلا سحابة صيف وتمضي بإذن الله، وتعود الأمة إلى سالف عهدها وتليد مجدها راعيةً وحاميةً للبشرية جمعاء ….
قال تعالى: «وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ، إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ ٱللهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ» (آل عمران : 139). ومع أن هذه الآيات نزلت بعد هزيمة المسلمين في وقعة أحد إلا أن الحق سبحانه يبشّر المؤمنين بأنهم هم الأعلون دائماً حتى وإن أصابهم انتكاسة أو هزيمة فهم الأعلى لأن الله معهم وهو لا شك ناصرهم أذا استقاموا على الحق، وما الهزيمة التي حلّت بهم إلاّ ألم ساعة وتزول بإذن الله لأنّ دولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
الأستاذ أبو أسيد
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته