محاضرة مفاهيم خطرة يتداولها الإعلام
بعد حدوث الثورات المباركة في البلاد العربية ظهرت عدة مصطلحات على السطح, وظهر كثير من المثقفين في العالم الإسلامي ينادون لهذه المصطلحات الوافدة من العالم الغربي، وذلك لقبول تلك المصطلحات، والترويج لها، والدعوة إلى تعميمها لتسود مناخنا الفكري والثقافي، ومهاجمة من يقف ضدها، ومن لا يُظهِر موافقة ومشايعة لها، ويشاركهم في ذلك بعض العلماء بحسن نية لعدم وضوح مدلول تلك المصلحات, أو سوء نية بمحاولة إضفاء مسحة أو شكل إسلامي على تلك المصطلحات بأساليب غريبة وبعيدة عن أصول الاستدلال في الإسلام، وكل ذلك ليزرعوا هذه المصطلحات ويستنبتوها في الثقافة الإسلامية، يفعلون ذلك وكأن دَوْر الإسلام مع هذه المصطلحات الشهادة لها بالسبق والتصديق عليها بالصواب. وإذ نتعرَّض لأربعة من هذه المصطلحات, حيث أنها الأكثر تدوالاً في وسائل الإعلام, والداعون لها كُثر. هذه المصلحات هي {المواطنة, الدولة المدنية, التعددية السياسية والفصل بين السلطات}, حيث سنبين أصل هذه المصلحات وما تعنيه عند أهلها, ونبين حكم الإسلام فيها.
أولا: المواطنة
ظهر مصطلح المواطنة في العالم الغربي النصراني بتنحية الدين، وتغليب مفاهيم بديلة تتنكَّر للدين وتعلي من قيمة الجنسية والتراب الوطني والاعتزاز به أكثر من غيره، والانتماء إلى تراثه التاريخي وعاداته وثقافته ولغته.
وعلى هذا فالمواطنة تحلَّ محل الدين في صياغة التصورات والأفكار وإقامة العلاقات في الوطن «الدولة», ومنه تستنبط القيم والسلوك والعادات، وعلى أساسه تحدد الحقوق والواجبات بعيداً عن الدين أو أي فكر أو ثقافة تعارض هذه الفكرة, حيث يعمل على إذابة كل الأفكار والانتماءات العقائدية والعرقية.
المواطنة هي علاقة قانونية بين الفرد (المواطن) وبين الوطن الذي تمثله الدولة بسلطاتها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، حيث تنظم القوانين الموجودة هذه العلاقة، والتي تقوم على أساس الانتماء لوطن واحد خاضع لنظام سياسي واحد بعيداً عن الارتباط بشيء خارج إطار الوطن؛ سواء كان ديناً أو ثقافةً أو غير ذلك.
حكم الإسلام في المواطنة
يقول الله تعالى: ﴿ إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾، ويقول تعالى: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾. لقد جعل الله الرابطة التي تربط المسلمين بعضهم ببعض في مشارق الأرض ومغاربها هي رابطة الإيمان المتجسدة في الأمة الواحدة، وليست رابطة المواطنة القائمة على أساس الوطن، فالأمة هي الجماعة من الناس المجتمعة على دين واحد، فإذا غاب المشترك الإيماني لم تكن جماعة الناس في ميزان الإسلام أمة.
وفي وثيقة المدينة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي الأمِّيِّ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس». فالضابط في ذلك كله ليس القبيلة وليس اللغة وليس الجنس، وإنما هو الإسلام والإيمان اللذان يشترك فيهما أهل قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. وقد رتبت تلك الوثيقة النبوية التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم عند دخوله المدينة الحقوق والواجبات بين المسلمين والمؤمنين، وكان فيما جاء في ذلك: «وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون النــاس»، فالمسلمــون أينمــا وُجــدوا فـي وطــن واحد أو عدة أوطان إخوة ترتبط علاقاتهم بالأحكام الشرعية التي تجعل منهم إخوة في جماعة واحدة، يسعى بذمَّتهم أدناهم، يوالي بعضهم بعضاً وينصر بعضهم بعضاً.
وفي النصوص الشرعية صريحة تعلي رابطة الإيمان وتجعلها فوق الروابط جميعها، كرابطة الأبوة والبنوة والأخوة والزوجية، والعشيرة والمال والتجارة والمساكن والأوطان، لكن لا ينبغي أن تقدَّم رابطة من تلك الروابط على رابطة الدين وحب الله ورسوله والجهاد في سبيله، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾، وهو خطاب للمسلمين على امتداد الزمان والمكان، ليكونوا ا أمة متميزة على أساس العقيدة.
ثانيا:الدولة المدنية
إن مصطلح الدولة المدنية مصطلح غربي مستورد وُلد ونشأ في ظل الصراع السياسي والاجتماعي الذي عرفه المجتمع الأوروبي منذ القرن السابع عشر، وتلازم نشوؤه مع التشكيلة الرأسمالية الغربية، مما يعني أنه مصطلح دخيل على الفكر الإسلامي, وترجع الجذور اللادينية للمفهوم في الغرب إلى الرأى القائل أنه تعبيراً عن انتقال مبدأ السيادة من السماء (الحكم بالحق الإلهي) إلى الأرض، فقد تم استخلاص كل سلطة مدنية من أصل مجتمعي دنيوي ولم يتم إسنادها إلى الحق الإلهي، وجعل هذه السلطة إلهاً من صنع البشر.
تتلخص طبيعة الدولة المدنية في وجود دستور يعبر عن قيم ومعتقدات وأعراف المواطنين في الدولة، وفي الفصل بين السلطات الثلاث، وفي اكتساب الحقوق على أساس المواطنة، وعدم التمييز بين المواطنين لا بسبب المذهب أو الطائفة أو الثقافة أو العرف، وفي كفالة حقوق الإنسان والحريات الأساسية، واحترام التعددية والتنوع.
والدستور هو أعلى وثيقة قانونية في الدولة وهو المرجعية النهائية لجميع القوانين والأنظمة، فكل ما خالفه من أفعال أو تصرفات فهي باطلة بالمطلق، وكل قانون أو تنظيم يسن مخالفا للدستور هو باطل، وكل ما خالف الدستور فيجب نقضه وإلغاؤه.
حكم الإسلام في الدولة المدنية
قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ, أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾. وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾, فالغاية من إنزال الكتاب تطبيق الحاكمية، لذلك لا ينبغي أن يحكم إلا بشرع منـزل، أو بما له أصل في شرع منـزل. وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم أساس الإعتصام والهداية فقال حين خطب الناس في حجة الوداع “ إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، كتاب الله، وسنة نبيه”.
قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى﴾، وقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ﴾.
فهل هناك من حاجة لدستور يضعه الناس, وقد أكمل الله لنا دينه, وأتم نعمته علينا ورضى لنا الإسلام دينا, ونزل كتابه المبين لكل شيء وجعله هدى ورحمة وبشرى.
ثالثا:التعددية السياسية
إن معنى التعددية السياسية من مفهوم النظم الرأسمالية هو أن يترك للناس حرية تشكيل الجماعات أو إنشاء التكتلات أو إقامة الأحزاب التي بدورها تختار من بين أعضائها ممثلين لها يشاركون في المؤسسات الدستورية من مجالس نيابية أو مجالس شورى أو غيرها.
ويعتبر هذا في نظرهم هو التمثيل الشعبي بغض النظر عن الفكرة التي تقوم عليها تلك الأحزاب،وقد يشاركون مباشرة في حكم البلاد وعندها يدخلون في السلطة التنفيذية فيصبحون وزراء في السلطة.
حكم الإسلام في التعددية السياسية
تؤسس التكتلات وتقام الأحزاب في ظل نظام الإسلام دون الحاجة إلى ترخيص أو تصريح من الدولة. ويجوز أن تكثر في الأمة وأن تتعدد. ويحق لكل جماعة أو حزب أن يصدر صحفاً ومجلات ينشر فيها آراءه وأفكاره التي تبناها ويدعو الناس لحملها وتبنيها ومحاسبة الحكام على أساسها. وعليه فلا بد أن يستهدف الحزب أو الجماعة في الأمة الإسلامية محاسبة الحكام ونشر الأفكار بين الناس.
ودليل ذلك قوله تعالى ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾.
إن الأساس الذي تبنى وتقام عليه هذه الأحزاب, واضح في الآية, وهو الدعوة إلى الخير, والخير هو الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجميع الناس حكاماً ومحكومين وحيث لا يتأتى ذلك من غير المسلمين كالعلمانية والشيوعية والوطنية والقومية.
ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب من المسلمين بالآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب فلا حاجة إذن إلى ترخيص أو تصريح من الدولة لإقامة الأحزاب شريطة أن تقوم على أساس الإسلام وتدعو إلى الإسلام. ولكن يحق للدولة الإسلامية أن تطلب من هذه الأحزاب والجماعات بياناً لبرامجها وأفكارها ووسائلها وطريقة عملها لتتأكد أنها قائمة على أساس الإسلام.
رابعا: الفصل بين السلطات
كان الملوك يحكمون أوروبا حسب الحق الالهي، وهي أن للملك حقا إلهيا على الشعب، فالملك بيده التشريع والسلطان والقضاء فهو الدولة، والشعب هو رعية للملك فلا حق له لا في التشريع ولا في السلطة ولا في القضاء ولا في اي شيء فهو بمقام العبد، فالناس عبيد لا رأي لهم ولا إرادة لهم وإنما عليهم التنفيذ وعليهم الطاعة .
ولما كان الملك بحكم الحق الالهي هو الذي وحده التشريع، وله وحده السلطة بقسميها الحكم والقضاء، وكان الظلم والاستبداد الذي يلحق الشعب بما للملك من حق التشريع وحق السلطة، نشأ الصراع الدامي بين الملوك ورجال الدين من جهة والمفكرين والعلماء من جهة أخرى من أجل إلغاء الحق الالهي إلغاء تاما وجعل التشريع والسلطة للامة، فصار البحث في أن الشعب سيد وليس عبدا وانه هو له حق التشريع وهو الذي يختار الحاكم الذي يحكمه.
حكم الإسلام في الفصل بين السلطات
يقوم على أساس إعطاء حق التشريع لله، والذي يعني تحليلاً وتحريماً..، وهذا من أهم أسس العقيدة الإسلامية، وما ينبغي على المسلم أن يؤمن به، ويعمل على تطبيقه أن المشَرِّع هو الله، وأنه لا يملك هذا الأمر أحد سواه، وأنه من مقتضيات شهادة التوحيد،لقوله تعالى ﴿ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ﴾ وقوله ﴿ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ﴾، وقد عدَّ القرآن الكريم التشريع من دون الله نوعاً من أنواع الشرك، قال تعالى﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ﴾، وهذا ما اتفق المسلمون جميعاً على حرمته، وعلى عظيم جرمه، وعلى كثير مفاسده، لذلك فالذي يملك صلاحية التحليل والتحريم هو الله وحده، ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَٰذَا حَلَـٰلٌ وَ هَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ﴾. والقضاء يجب أن يكون حسب شرع الله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه, فهو رد”.
وعود على بدء:
أما وقد أكمل الله لنا الدين, وأتم نعمته علينا ورضى لنا الإسلام دينا, وأنزل كتابه المبين لكل شيء وجعله هدى ورحمة وبشرى, وأرسل مع الكتاب السنة النبوية.
أما وأن هذه المصطلحات لا أصل لها في الإسلام، وأن منبتها من الكفر, فهي أفكار كفرية, وأنها ليست الحل الناجز لكل قضايانا ومشاكلنا التي نعيشها، والكثير ينادي لها, ويعمل لقبول تلك المصطلحات، والترويج لها، والدعوة إلى تعميمها.
هل بقي من قول لمن ينادي بهذه المصطلحات ويدعو لها, وهل بقي من قول لمن يقول أن الإسلام لا يحوي الحل الإلهي لكل قضايا المسلمين.