شرعية الحاكم
قام المسلمون في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي بثورات عظيمة مباركة ضد الحكام والأنظمة الجاثمة على صدورهم عقوداً طويلة. وما زلنا نشهد استمرار هذه الثورات وانتقالها من مكان إلى آخر، وبزخم أكبر رغم محاولات الأنظمة وقفها ومنع استمرارها. فها هو حاكم ليبيا بعد أن رأى ما حصل في تونس ومصر أخذ يقتل الناس ويقصفهم، ويدمّر المدن والقرى، ولسان حاله يقول « أنا ومن بعدي الطوفان». فالقتل والتجويع لكل من يخالف أو يحاسب أو يطالب بشيء. وها هو سليل النصيريّين في سوريا بعد أن أرسل ودعم القذافي بالسلاح والرجال، يقتل الناس دونما رحمة أو شفقة سائراً في ذلك على درب أبيه من قبل في قتل الناس في حماة وتدمر. ويرسل «شَبّيحته» تضرب الناس وترهبهم وتقتلهم. وها هم المسلمون في اليمن يخرجون بالملايين مُطالبين «الطالح» بالتنحي والرحيل، فيرد عليهم بالقتل والخطب المخزية.
والناظر في مطالب الناس يرى أنها تَنصبُّ على حقهم في اختيار حكامهم ومعاقبة السارقين والناهبين للمال العام، ومحاسبة بعض رؤوس الأنظمة على جرائمهم، مع أن المطلب العام لجميع الناس هو التغيير. والمدقق لأحوال الناس وأوضاعهم يرى أن التغيير الحقيقي يكون بتغيير أوضاعهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويكون بتغيير طراز عيشهم وحياتهم. وهذا التغيير لا يتم إلا بتبني أفكار ومفاهيم ينبثق عنها معالجات وتشريعات تعالج مشاكل الناس. وهذه الأفكار والمعالجات والتشريعات لا تكون إلا من عند الله عز وجل كالإسلام أو من عند البشر كالنظام الرأسمالي.
وقد جاء الإسلام ليضمن عيش الإنسان في ظل حياة كريمة يُحافظ فيها على النفس والعقل والمال والعرض والكرامة. وكل هذا يحتاجه المسلمون ويدعوهم للمطالبة بالتغيير. وقد جاء الإسلام بتشريعات شملت كل جوانب حياة الإنسان. فهناك نظام حكم متكامل يحدد العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم، ويحدد أركان وأجهزة الدولة، وصلاحيات ومهام كل جهاز. وهناك نظام اقتصادي يقوم على العدل في توزيع الثروة، ويحدد كيفية الحصول على المال وكيفية نفقته، ويمنع كنز المال وحصره في يد فئة قليلة من الناس. وهناك نظام اجتماعي يقوم على تحديد علاقة المرأة بالرجل وما ينتج عنها من زواج أو طلاق أو اجتماع أو اختلاط أو لباس. وهناك نظام تعليمي يقوم على أساس إنتاج شخصيات ذات ثقافة إسلامية وذات علوم مدنية قادرة على الاختراع والاكتشاف والتقدم المدني. وهناك نظام صحي يقوم على رعاية الناس وتقديم أفضل الخدمات الصحية والطبية المجانية دون انتظار أشهر أو سنوات للحصول عليها. وهكذا في كل شأن من شؤون الحياة تجد الإسلام قد وضع الحلول المناسبة بما يكفل عيش الناس بأمان وطمأنينة.
وقد أشكل على الناس في الوقت الحاضر مسألة اختيار الحاكم أو انتخاب المسئولين والممثلين عنهم، ونظروا إلى الديمقراطية فرأوا أنها تجعل انتخاب الحاكم أو الرئيس من قبل الناس شرطاً لتولي صلاحياته، فرأوا ألا بأس بالقبول بالديمقراطية -ولو في بداية الأمر- ما دامت تضمن حق الانتخاب الذي مُنع منه المسلمون عقوداً طويلة. وحتى يُزال هذا الإشكال فدعونا ننظر إلى واقع الحاكم أو الخليفة في الإسلام.
إنّ نظام الحكم في الإسلام قائم على أربعة قواعد، أولها أنّ السيادة للشرع أي أن الذي يسيّر إرادة الفرد والأمة أوامر الله ونواهيه، وثانيها أنّ السلطان للأمة، أي أن الأمة هي التي تختار بإرادتها دون إكراه أو إجبار من يحكمها بالشرع، وثالثها أن تنصيب خليفة واحد فرض على المسلمين، ويأثم المسلمون بفراغ وشغور هذا المنصب، ورابعها أن للخليفة وحده حق تبني الأحكام الشرعية. ولما كانت الأمة هي التي تختار حاكمها، فقد جعل الإسلام أسلوب اختيار الخليفة متعدداً ومختلفاً كما حصل مع الخلفاء الراشدين على مرأى ومسمع من الصحابة رضوان الله عليهم. وقد أباح الإسلام أسلوب الانتخاب للخليفة حيث لا يعدو أكثر من أسلوب لمعرفة رأي الأكثرية في رغبتهم فيمن يحكمهم. فأسلوب الانتخاب لا يختص بمبدأ أو بنظام معين، بل يمكن استعماله واستخدامه في أيّ زمان ومكان. والخليفة لا يصبح حاكماً إلا بعد مبايعة الأمة له – بالرضا والاختيار- على الحكم بالإسلام. وقد وضع الإسلام شروطاً معينة من أجل انعقاد البيعة للخليفة، منها الإسلام والذكورة والعدالة والبلوغ والعقل والحرية والقدرة على القيام بأعباء الخلافة وبتسيير أمور الحكم. وأمر الخليفة برعاية مصالح الناس والقيام على معالجة مشاكلهم، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته. وأمر الإسلام بطاعة الخليفة في السر والعلن ما لم يأمر بمعصية، وجعل «أمر الإمام نافذ ظاهراً وباطناً». وقد أمر الإسلام بمحاسبة الحاكم إن خالف أيّاً من أحكام الإسلام.
وقد أوجب الإسلام عزل الخليفة -مع وجوب طاعته- عن طريق محكمة المظالم، إن حصل أحد الأمور التالية: (1) أن تُجرح عدالته بأن يصبح ظاهر الفسق، (2) أن يتحول إلى أنثى أو خنثى، (3) أن يُجنّ جنوناً غير مُطبق بأن يجنّ أحياناً ويصحو أحياناً، (4) العجز عن القيام بأعباء الخلافة، (5) القهر الذي يجعله عاجزاً عن التصرف بمصالح المسلمين وفق رأيه، كأن يتسلط عليه أحد أفراد حاشيته، أو أحد أفراد عائلته كزوجته أو إخوته، أو أن يقع تحت الأسر في يد عدو إما بالفعل أو بوقوعه تحت تسلط عدوه.
وأوجب الإسلام عزل الخليفة وعدم طاعته إن حصل أحد الأمور التالية التي تُخرجه عن الخلافة وتفسخ عقدها: (1) الارتداد عن الإسلام، (2) الجنون المُطْبق الذي لا يصحو منه، (3) الوقوع في يد عدو قاهر لا يُؤمل الخلاص منه.
والناظر في حكام المسلمين اليوم يجد أنهم قد اغتصبوا السلطان والحكم من المسلمين، ولم يُنتخبوا ويُبايَعوا من قبل المسلمين بالرضا والاختيار على الحكم بالإسلام، فلا تجب طاعتهم. وكذلك نجد لو أنهم بويعوا من قبل الأمة، فإن توفر شروط عزلهم وتغييرهم قد انطبقت عليهم جميعاً. فكلهم غير عدول قد أظهروا الفسق، بل وقد ظهر الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله عز وجل برهان. وكلهم عاجز عن التصرف بأعباء الحكم بنفسه: فإما زوجة مُتحكِّمة أو عائلة مُتنفِّذة، وجميعهم واقع تحت تَسلُّط الأعداء فهم ينفذون رغبات ومصالح أسيادهم في الغرب.
إنّ المسلمين مُطالبون بتغيير أوضاعهم تغييراً صحيحاً يُرضي الله عز وجل عنهم، تغييراً يرفع الضيم والظلم والقهر الذي عايشوه طويلاً، تغييراً يأتيهم بسلطان يحبهم ويحبونه، يعطف على ضعيفهم ويحنو على صغيرهم. يحثو المال ولا يسرقه، يوزع الثروات بالعدل وعدم المحاباة فيعم الخير بقاع المسلمين. ويحمل الإسلام إلى غير المسلمين فيخرجهم من الضيق إلى السعة والرحمة، ومن الظلم إلى العدل والطمأنينة، ومن الشقاء إلى السعادة. ويخرج الناس من استعباد بعضهم لبعض، ويعيد للإنسان كرامته بعد هذا الامتهان الطويل لها. ألا إنّ رياح التغيير قادمة بإذن الله، وإنّ نسمات الخلافة لأقرب من الفجر القادم، وما ذلك على الله بعزيز.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
الأستاذ أبو هيثم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته