لا تغيير في ظل أمريكا
إن التغيير الذى ننشده لايمكن أن يتحقق دون إدراك حقيقة الصراع ، ومن ظن أن الصراع هو بين الأمة وحكامها فبالطبع سوف يخطىء الطريق حين يعمل للتغيير، لأنه سيكتفى بإزاحة الحاكم ورجالاته ويستبدلهم بغيرهم . إن التفكير الصحيح يستلزم منا طرح الأسئلة : من الذى أتى بهؤلاء الحكام الذين أذاقوا الأمة سوء العذاب ، الذين سهروا على مصالح الغرب ودمروا أمتهم ولم يتركوا طريقاً ليشقوا به على رعاياهم إلا وقد سلكوه ؟
إن الجواب على هذا لايحتاج عناء مشقة إو إجهاد نفس ، لأن الصراع قد تبلور بشكلٍ لايجعل أحداً يمارى فيه ، فحقيقة الصراع هى معاداة الغرب للإسلام واتخاذه عدواً ، فالأمة لم تختر لنفسها هذا الصراع بل هو مفروض عليها ، وهذا الصراع قد أخذ منحى خطيراً حين تمكن الغرب من القضاء على الخلافة ، وإزالة الوحدة السياسية التى ربطت الأمة على مدى 13 قرناً من الزمن ، وإقامة حدودٍ مصطنعة لتفصل بين أبناء الأمة الواحدة . وقد أقام الغرب على هذه الكيانات عملاءً له ، أناط بهم مهمة ثقيلة ، وهى تشكيل خط الدفاع الأول عن الغرب ومصالحه ، وقد أمد الغرب هذه الأنظمة بكل الوسائل لتتمكن من إنجاز هذه المهمة وهى إبعاد الإسلام عن الحكم وبالتالى ترسيخ الفرقة بين أبناء الأمة والحيلولة دون عودتهم مرة أخرى أمةً واحدةً ، وقد ركز الغرب عن طريق عملائه من الحكام على إشغال الأمة بمشاكل ثانوية فشغلها بقوت يومها وعدم رعايته لشؤونها حتى تستنفد كل وقتها فى البحث عن حياة كريمة ، وبالتالى تنشغل عن التفكير الجاد فى التغيير الصحيح .
وبعد أن خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية منتصرة ، قامت باستبدال الاستعمار القديم بنوع آخر من الاستعمار فخرجت الجيوش المستعمرة وتم استبدالها بجيوش جديدة من العملاء وقامت هذه التحركات تحت مسمى براق أطلقوا عليه ثورات التحرر العربية ، وماكانت هذه إلا استبدال وجوه بوجوه أخرى ، وتم من خلالها ترسيخ أقدام المستعمر فى كل مؤسسات الحياة فى بلادنا. وكانت مصر أولى ضحايا الاستعمار الأمريكى حيث استطاعت أمريكا أن تمد يدها إلى كل مفاصل الحياة لإدراكها أن من يملك مصر فقد ملك العالم الإسلامي، وأن أى تغيير فى مصر سوف يتبعه تغيير شامل فى كل بلاد العالم الإسلامي، لذلك عملت الأنظمة المتعاقبة على ترسيخ النظام العلمانى فى مصر ومحاربة أية محاولات لإنهاضها على أساس الإسلام ، وقد نالت الحركات الإسلامية بمختلف توجهاتها من العذاب والتنكيل والتضييق والقتل ما لم ينله أحد غيرها.
هذه هى حقيقة الصراع ، صراع بين الغرب بقيادة أمريكا من جهة والإسلام من جهة أخرى، وليس الصراع صراع مصالح كما يدَّعى بعضهم، لأن الغرب كان باستطاعته تأمين مصالحه بعملائه من الحكام دون أن يحتاج إلى كل هذا الإجرام الذى مارسه على الأمة.
إذا كانت هذه هى حقيقة الصراع فإن التغيير الحقيقى لا يجوز أن ينصب على إزالة الحكام وإبقاء النظام العلمانى الذي يكرس انحطاطنا، ولايكون التغيير الحقيقى بإيصال الحركات الإسلامية إلى الحكم دون الإسلام، كما لا يكون التغيير الحقيقى بالإبقاء على العلاقات مع أمريكا طرف الصراع. إن من يعمل للتغيير ويريد أن يتعامى عن حقيقة هذا الصراع فهو لا يخدع إلا نفسه، وإن من يظن أن الصراع هو صراع مصالح وأنه يمكن إقامة علاقات على مستوى من الندية مع الغرب فهو أيضاً حالم ويتغافل عن الحقيقة.
إن الثورات التى منَّ الله بها علينا قد فتحت الباب على مصراعيه للتحرر الحقيقى بالتخلص من كل أنواع التبعية لأمريكا ومؤسساتها الاستعمارية، وهذا لا يكون إلا بإزالة النظام العلماني الذى يحكمنا والذى أقامه الغرب فى بلادنا على أنقاض دولة الخلافة، والعودة إلى الإسلام بوصفه نظاماً شاملاً للحياة بإيصاله إلى الحكم ، ليكونَ هو المتحكم فى كل علاقاتنا سواء أكانت الداخلية أم الخارجية، ولأن الإسلام هو مصدر قوتنا وبه وحده نستطيع التحرر من الغرب تحرراً كاملاً لقدرته على تنظيم كل شؤون الحياة تنظيماً صحيحاً، فنظامه الاقتصادي قادر على تدبير شؤون المال تدبيراً دقيقاً بالشكل الذى يُمَكن الأمة من الاستفادة من ثرواتها التى نهبها الغرب ولم تستفد منها الأمة فى يوم من الأيام، وهذا النظام سيكون قادراً على إعادة النظام النقدي إلى قاعدة الذهب والفضة كما كان فى سابق عهده وبالتالى سوف يوجه بذلك الضربة الأخيرة للنظام الرأسمالى العفن، والخير الذى حبانا الله به يجعلنا قادرين على هذا بشكلٍ انقلابي دون تأخير.
إن الإبقاء على أمريكا ونفوذها فى مصر يتناقض كل التناقض مع التغيير الحقيقي، فلا يمكن العمل للتغيير فى ظل وجود أمريكا فى مصر لأنها هى العدو الأول للتغيير، ولا ينخدعن أحد بما تُصرحُ به من آنٍ إلى آخر، بأن الحكام قد خدعوها بإعطائها صورةً مشوهةً عن الحركات الإسلامية، لا ينخدعن أحد بمثل هذه التصريحات لأن أمريكا تعلم تفاصيل الأمور وليست بحاجة لعملائها الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً حتى يخدعوها. إن أمريكا تدرك أن الأمور قد تغيرت وأن الأمة التى خرجت على حكامها لا تهاب الموت، ولايمكن لأحد أن يُسكِتُها بعد اليوم، وأن هذه الأمة فى طريقها إلى التحرر شاءت أمريكا أم أبت. لذلك تحاول أمريكا وغيرها من دول الغرب تقمص دور الضحية، وأنهم والحركات الإسلامية ضحايا لحكام المسلمين، وإذا كانت أمريكا تدّعي هذا، فإنه من أجل امتصاص غضب الأمة حتى لا توجه سهامها إليها. وتعلم أمريكا أن هذه الثورات قد فاجأتها دون أن تَعُدَ لها العدة، لذلك هى متخبطة فى تعاملها مع الثورات خاصة فى مصر وإذا أضفنا لذلك مشاكلها الداخلية التى تفاقمت ووصلت لدرجة اللاعودة، ندرك تمام الإدراك أن أمريكا تحاول بخداعها الحركات الإسلامية أن تأخذ استراحة محارب حتى تتمكن من ربط الحكام الجدد بها عن طريق المساعدات الاقتصادية والتلويح بمسألة الاعتراف الدولي بالحكومات الجديدة.
إن أمريكا عدو، فيجب علينا أن نتخذها عدواً، ولا يمكن أن يستقيم العمل للتغيير الحقيقى والمحافظة على العلاقات مع أمريكا لأنهما نقيضان لايجتمعان، فالسير فى طريق أمريكا بحجة أننا لا نقوى على المواجهة معها هو انتحار سياسي بالإضافة إلا أنه خذلان للأمة التى خرجت عن بكرة أبيها لتعطي أصواتها للإسلام باختيارها الحركات الإسلامية فيجب على هذه الحركات ألاّ تخذلَ الأمة وهذا لن يحدث إلا إذا أدركت هذه الحركات أن النصر من عند الله وأن العزة لا تستمد إلا منه .
( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) آل عمران 160
د. ياسر صابر