الفهم الغامض والتأصيل الفاسد للسياسة الشرعية لدى بعض المعاصرين
إن مما لا شك فيه أن الثورات التي انطلقت من تونس واجتاحت العديد من دول المنطقة كانت ردة فعل على تراكمات هائلة من المظالم عاشتها المنطقة وأوصلت الشعوب إلى حالة الانفجار .
وإن المدقق في المطالب والشعارات التي رُفعت فيها، والشعور بالانتصار وتحقيق الأهداف عندما سقط الحكام، يدل دلالة واضحة على عدم وجود رؤية سياسية عند الثائرين لمرحلة ما بعد الثورة، فغلب على مطالب الثائرين النواحي الإجرائية، وليس تغيير السياسات .
وهذا يجعل الثورات عُرضةً للاختراق والاحتواء وحرف مسارها، أو بالاكتفاء بالترقيعات التي تعالج مشاكل الشعوب ولا تنهض بالمجتمعات، لأن النهضة تقوم على مبدأ؛ عقيدة ينبثق عنها نظام شامل لجميع جوانب الحياة.
ومن الملاحظ أيضًا أن الحركات الإسلامية قد لحقت بهذه الثورات بعد تردد، وقد كان المأمول منها أن تعمل على ترشيد مسيرة الثورات، فتدرك واقع المشكلة، وتطرح البديل الإسلامي طرحا نقياً راقياً خاليا من أي شائبة كما نزل على الحبيب المصطفى “صلى الله عليه وسلم”.
ومن المعلوم بداهةً أن المشكلات ناجمة عن تطبيق سياسات الكفر على أمة مسلمة من خلال أنظمةٍ فاسدة صاغ دساتيرها الكافر المستعمر وبرجال أكثر فساداً من هذه الأنظمة كرست نفوذ المستعمر ورعت مصالحهُ، فكان لابد من الانعتاق من التبعية الغربية، وبالتخلص من النظام الغربي وجميع الأفكار والمفاهيم التي تُدار بها عجلة البلاد، وكذلك التخلص من الوسط السياسي الحارس الأمين لمصالح الغرب، إلاَّ أنَّ الأمر كان مختلفاً، فقد رأينا الحركات الإسلامية تٌعلن تحالفها مع العلمانيين ومع الوسط السياسي والعسكري الذي تربَّى على موائد الغرب بدلاً من العمل على التخلص منه لأنه صنيع الاستعمار وخادمه .
فبدلاً من طرح مشروع الإسلام أقامت الحركات الإسلامية أحزاباً على غير أساس الإسلام وقبلت أن تكون أحزاباً غير إسلامية تعمل وفق قوانين الأحزاب التي تَحظُر الأحزاب على أساس الدين وتعمل على المحافظة على الدساتير الوضعية والمشاركة في صياغتها، وتخلت عن تطبيق الشريعة وأعلنت قبول كل عفانة الرأسمالية، وقذارة الحريات ورجسها وما أنتجته الأنظمة الهالكة.
أخذت ترسل التطمينات المتلاحقة لدول الكفر الاستعمارية، فأعلنت أنها لا تريد تطبيق الشريعة، وإذا ما وصلت إلى الحكم فستحترم كل الاتفاقات الدولية وحقوق الأقليات، ولن تمنع الربا والخمور والسياحة ومتطلباتها القذرة، وستبقي على كيان يهودَ وسفاراته ومصالح الغرب، وستعمل على محاربة الإرهاب، والقائمة تطول من المطالب والتطمينات، حتى أصبحنا لا نفرق بين مطالب علماني أو شيوعي أو مطالب الإسلاميين .
وأخذوا يُسوّقون هذه التنازلات تحت عنوان السياسة الشرعية التي لم يحددوا مفهومها، ولا ما هي ضوابط السياسة الشرعية عندهم، وأخذوا يضعون القواعد التي تبرر عدم الالتزام بالأحكام الشرعية، كالتدرج والاستحسان والعُرف والمصالح وغيرها من القواعد التي تركوها عائمة من غير ضوابط شرعية.
وكذلك تذرعوا بصعوبة تطبيق الإسلام دفعة واحدة وصعوبة إلزام الناس بدولة الخلافة وخاصةً مع وجود غير المسلمين في بلادهم .
ولنأخذ هذه المسائل بشيءٍ من الإيجاز المفيد .
مفهوم السياسة الشرعية :
السياسة هي رعاية لشؤون الناس على مستوى الفرد والمجتمع داخلياً وخارجياً، وعندما تم إضافتها للفظ الشرعية أصبحت رعاية شؤون من منظور إسلامي وفق أحكام الشرع الحنيف وما حواه من أوامر ونواهٍ، أي حصراً في الوحي الإلهي الذي لا يجوز الأخذ من غيره، قال تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً }
وقال تعالى :{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }
وقال رسول الله ” صلى الله عليه وسلم ” : (( كل عملٍ ليس عليه أمرنا فهو رد)).
وقال علية الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
فالسياسةُ الشرعية هي رعاية شؤون الناس بالأوامر والنواهي الشرعية ولا يعني التخلي عن الأحكام الشرعية ولا بعضها، ولا يعني الاحتكام إلى الواقع ومسايرته، والنصوص على ذلك مُستفيضة .
أما القواعد الشرعية الموهومة: وإن كانت كل قاعدة تحتاج إلى بحث أُصولي دقيق، فسنضع أهم المعايير التي لا يجوز لهذه القواعد القفز عليها، والتي يرجع إليها لرد القواعد الفاسدة وكذلك لضبط الأحكام المبنية عليها .
1- إن القواعد من أصول الفقه التي تضبط عملية الاجتهاد وضمان سيره على منهج صحيح، ولذلك يُشترط فيها أن تكون قطعية لا شك فيها ولا غموض ولا تكون حمّالة أوجه، فالقاعدة قطعية في ثبوتها مأخوذة من الأدلة الشرعية، وقطعية في دلالتها وتشمل جميع أفراد القاعدة، فعندما نقول بالمصلحة على سبيل المثال لابد من تحديد المصلحة دنيوية أم أخروية، ومن الذي يحدد هذه المصلحة العقل أم الشرع ؟ وهل هي علة في تشريع الحكم وباعث له ؟ أي أن الحكم الشرعي تابع لها حيثُما وجدت المصلحة وجد الحكم أم هي نتيجة لتطبيق الحكم؟ أي تابعة له حيثما يكون الحكم الشرعي تكون المصلحة،وهل هي معتبرة شرعاً أم ملغاة لا يمكن أخذها إلا بتعطيل النصوص؟ وهل هي في المباحات وما أجاز لنا الشرع أخذه أو تركه ؟ ثم إن المصلحة لا يتوصل إليها إلاَّ باجتهاد معتبر، ولا تحدد بتوافق الناس عليها على اختلاف عقائدهم وعدم أهليتهم للاجتهاد، وكل ما يؤهلهم هو إبراز الإعلام لهم تحت مٌسمى مفكر إسلامي أو داعية أو غير ذلك من الأسماء اللامعة .
2- إنَّ الفقه هو علم بالمسائل الشرعية العملية المستنبطة من الأدلة التفصيلية، فالأحكام الشرعية لا تؤخذ من الأدلة الإجمالية، فلا يُستدل على الفروع بالدليل الإجمالي أي بالقواعد .
مثالٌ على ذلك عندما نقول أن الإجماع دليل على المسألة نأتي بحادثة الإجماع ولا نكتفي بذكر قاعدة الإجماع أي الدليل الإجمالي، فنقول ثبت وجوب تنصيب خليفة واحد للمسلمين فنذكر حادثة الإجماع على مبايعة أبي بكر أو عمر أو عثمان، كما نقول وجوب صيام جزء من الليل لقوله تعالى: { ثم أتموا الصيام إلى الليل } بناءً على القاعدة التي تقول ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبذلك لا بد من ذكر الدليل بعينه على المسألة التي تشهد له القاعدة ولا يكتفى بذكر القاعدة فقط لأنه يكون حينها من الإيهام .
3- وإذا جاريناهم واعتمدنا القواعد في الاستدلال، لابد من ذكر الحالة بعينها التي هي محل الشاهد، فعندما يُقال العرف دليل على المسألة الفلانية نقول اذكروا لنا الحالة التي جرى فيها إقرار العرف كدليل عليها وجرى قياس المسألة عليها .
4- يجب أن يتم استنباط القواعد الشرعية من جملة الأدلة الشرعية التي جاء بها الوحي حصراً، قال تعالى: { قل إنما أُنذركم بالوحي } وقال تعالى : { وأُوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } .
ومثال ذلك قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب نجدها مأخوذة من جملة نصوص شرعية، قال تعالى: { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولا يتم ذلك إلا بسلطان، وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ولا يتم ذلك إلا بسلطان، وقال تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ولا يتم ذلك إلا بسلطان، وقال تعالى: { ثم أتموا الصيام إلى الليل } ولا يتم ذلك إلا بإدخال جزء من الليل في الصيام، وقال تعالى: { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } ولا يتم غسل اليدين إلا بإدخال المرفق .
ومن هذه النصوص وغيرها تستنبط قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
5- لا يجوز للقاعدة أن تكون معطلة لنصوص الشرع وناسخة لها .
كما يقولون في الضرورات تبيح المحظورات فتعطل النصوص فيستباح الربا بحكم الضرورة وتتخلى المسلمة عن حجابها بحكم الضرورة وتتم المشاركة في حكم الكفر والقبول بالدساتير الوضعية والحكم بغير ما أنزل الله ويحافظ على هذه الدساتير ويحتكم إليها بحكم الضرورة المعطلة لنصوص قطعية، فإن هذه القاعدة بهذه الصورة تبيح كل المحرمات وتسقط الواجبات فماذا يبقى من الإسلام؟ إنه قول عظيم.
6- إن طريقة الاجتهاد حددها رسول الله ” صلى الله علية وسلم ” وأرشد إليها في حديثه لمعاذ بن جبل عندما ولاه على اليمن وأخبره أن هناك أهل كتاب فبمَ تحكم، فقال بكتاب الله فإن لم يجد فبسنة رسول الله “صلى الله علية وسلم ” فإن لم يجد يجتهد رأيه، ولا يكون العكس، أي لا تُترك النصوص ويُقفز إلى الاجتهاد والعمل بالمصالح وغيرها، فربما نلتمس عذراً لمن أعجزتهُ النصوص فلجأ إلى هذه القواعد وإن كان ذلك غير وارد .
فلا وجود لحادثة من غير نص.
7- الوحي جاء مُبيناً لكل شيء قال تعالى: { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين }.
فلا يقال يوجد أمر لم يرد فيه نص، والشرع سكت عن بيان حكمه، فالنصوص تناولت المسائل بأعيانها، أو بألفاظ العموم تندرج المسائل تحتها كأفراد العموم، أو معللة فتكون دخلت تحت النص باشتراكها في العلة الواردة في النص، فلا يُتهم دين الله بالنقص وعدم الكمال، ولا يُتهم الله عز وجل بأنه لم يعلم أن الأمة سوف تمر بمثل هذه الأحوال ولم يُشرِّع لها من الأحكام ما يُناسبها، ولا يُتهم الرسول بعدم تبليغ كل ما أُنزل إليه .
ومن ذلك كله نقول أن القواعد التي تقدم للمسلمين في هذه الأيام لا تراعي الضوابط الشرعية وليست هي التي تحَّدث فيها فقهاء المسلمين الأوائل، فالاستحسان تشريع ومن شرَّع فقد كفر، والعرف عند الإمام مالك هو عرف أهل المدينة في زمانه، زمن الصحابة والتابعين وهو إجماع عملي، وهذا مُختلف تماما عن عرف الناس في هذه الأيام، والعرف الذي أقره الشرع أخذ شرعيته من إقرار الشرع له وليس من العرف، وأما التدرج فهو يعني أن يُقسَّم الإسلام إلى حزم فيُأخذ بعضه ويُعطل البعض الآخر ولو كان قطعي الدلالة والثبوت، وهذا لا يعرفه الإسلام، ويتم تقديمه بطريقة خبيثة يُخلط فيها بين الدعوة ومرحليّتها، وتطبيق الشرع من خلال الدولة، فالدولة تُطبق الإسلام على جميع الرعية مسلمين وأهل ذمة دون تمييز، ولكن الدعوة لا يحملها من كفر بها، فكيف يتحالف أهل الدعوة مع الكفار لإيصال الإسلام إلى سدة الحكم؟ .
إن هناك مُغالطات مقصودة لتضليل الناس، كالاستدلال بحكم الخمر على التدرج، وكذلك الضرورات التي هي في باب الرخص الشرعية المحددة بأعذارها في النصوص، والتي لم يعللها الشرع ولا يجري فيها قياس، والأدهى من ذلك وأمر هو تقديم هذه الرخص على أنها أصل ولم تعد حالة استثنائية وإن الأمة أثناء سعيها للخروج من التخلف والانحطاط والإنعتاق من التبعية والتحرر من الاستعمار تحتاج لإعمال العزائم والإصرار على عظائم الأمور حتى تقتعد مكانتها كأمة رائدة، وليس الأخذ بالرخص والقعود عن العزمات ومعالي الهمم.
ومما لا شك فيه أن القواعد التي تُقدم للناس في هذه الأيام هي في غاية الخطورة وغاية الفساد .
أما موضوع صعوبات تطبيق الإسلام الآن في ظل الظرف الحالي فالقول به من باب التهويل وتضخيم العقبات التي تحول بين الإسلام والتطبيق وهذا أمرٌ مُبالغ فيه وخاصةً في هذا الوقت الذي يشهد تغييراً جذرياً على مستوى الشعوب الإسلامية وعلى مستوى الموقف الدولي وتأثير دوله.
فالعقبات في وجه التطبيق يمكن تقسيمها إلى قسمين :
1- أخطار داخلية: متمثلة في رفض المجتمعات للشريعة الإسلامية وعند النظر في واقع مجتمعاتنا نجدها مُتعطشة لتطبيق الإسلام واندفعت ثائرة تريد الإسلام، والمعارضون لتطبيق الشريعة هم أضعف الشرائح في المجتمع .
بقيت شريحة القوة الكامنة في الوسط السياسي والعسكرْ، وهذه الشريحة يتراجع خطرها كثيراً بعد الثورات، ويمكن التعاطي معها بحكمة، والتغلب عليها إن وجدت الجدية وابتعدنا عن العقلية التي بُرمجت على حسابات الماضي التي لا ترى إلا سطوة الحكام وأجهزتهم الأمنية. والأهم من ذلك جميعا أن لا ننسى توفيق الله سبحانه وتعالى للعاملين. وإن الحكام أصبحوا الآن في حالة ضعفٍ واسترضاء للشعوب الثائرة، فلم يعودوا ذلك الخطر الذي يمنع تطبيق الإسلام ولا يمكن التغلب عليهم.
2- أخطار خارجية: تتمثل في القوى الدولية والاستعمارية ووسطها السياسي في بلادنا فإننا نؤكد أن الغرب في حالة عجز في كل قواه، ومأزوم في داخله، وإنَّ خياراته في مواجهة الدولة الإسلامية محدودة جداً ويمكن التغلب على هذا الخطر ببذل الجهد الصادق والعمل السياسي الراقي ومن هنا نقول وبكل تأكيد لا يوجد ما يمنع من تطبيق الإسلام وإعلان دولته إلاّ العقليات التي تشكلت على ثقافة الغرب وبرعاية الحكام وما زالت تأتمر بأمره وتلبس لبوس الإسلام .
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد يُعز به الإسلام وأهله ويذل به الكفر وأهله، ويعمل فيه بكتابك وسنة نبيك اللهم آمين آمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشيخ سعيد رضوان- أبو عماد