الإصلاح والتغيير من منظور الإسلام الجزء الثاني
نتابع معكم أيها الإخوة والاخوات الكرام من حيث توقفنا في الحلقة السابقة في موضوعنا الإصلاح والتغيير من منظور الإسلام، حيث انتهينا عندما قلنا أن الأمر يتضح وتتضح صورته ويتم إدراك واقع الإصلاح والتغيير في الإسلام لا بد أن نستعرض أحوال الأمة الإسلامية عبر المحطات التي مرت بها.
المحطة الأولى:
وهي فترة النبوة والخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وعند النظر في واقع الدولة وحسن التطبيق نجد أن التطبيق قد بلغ قمة الإحسان والرقي وذلك لتوجيه الوحي وحسن فهم الإسلام من الخلفاء وكفاءة الرجال، وإن كان هناك أخطاء بشرية، فقد جاء أحد ولاة رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، وقد أجاز لنفسه الرشوة وقال هذا لكم وهذا أهدى لي فعالج رسول الله “صلى الله عليه وسلم” هذا الخلل بما يلزم .
ولقد كانت سيرة الخلفاء الراشدين متميزة في حسن الفهم وحسن التطبيق فاستحقوا أن يكونوا خير القرون .
وهذه إحدى الحالات التي مرت بها دولة الإسلام مع وجود الأخطاء البشرية. وكان عنوانها خطاب أبي بكر “رضي الله عنه” عندما بويع بالخلافة إذ قال :”وُليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم “.
وبناءً على ذلك نستطيع أن نجزم بأنه في حالة قيام الدولة على العقيدة الإسلامية في كيانها وأجهزتها وجميع تشريعاتها، يجب المحافظة على استمرار الفهم الحسن والتطبيق الحسن .
ومن الضمانات المطلوبة والأعمال اللازمة لاستمرار ذلك نذكر بإيجاز ما يلي:
1- محكمة المظالم تراقب كل ما يجري في الدولة وما يصدر عن الحكام من تشريعات، وتحاسب على ما يتم من أعمال الرعاية في الداخل وفي العلاقات الخارجية، وكذلك تقوم برفع الخصومات بين الناس والدولة امتثالاً لقوله تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر)) .
2- أهل الحل والعقد الذين ينقادُ لهُم الناس ويكونون تبعاً لرأيهم ولهم التأثير القوي على الحكام فيُحسب لهم ألف حساب أمثال ” سعد بن عبادة ” و” سعد بن معاذ ” و” أسيد بن حضير ” و” الأحنف بن قيس “، و” جارية بن قُدامة السعدي ” الذي قام في وجه معاوية قائلاً :” لقد أعطيناك سمعا وطاعة على أن تحكم فينا بما أنزل الله فإن وفيت وفينا لك وإن ترغب فقد تركنا خلفنا رجالاً شِداداً وأدرعاً مِداداً ما هم بتاركيك تتعسفهم ولا أن تظلمهم “.
3- أهل الشورى الذين ينتخبون انتخاباً حقيقيًا ويقومون بالنصح والمحاسبة للحاكم وأعوانه وولاته. قال “صلى الله عليه وسلم ” لأهل بيعة العقبة الثانية الذين بايعوه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن يقوموا بالحق أينما كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم .
4- الحزب السياسي القائم على عقيدة الإسلام وله قوة التأثير في الأمة، فيكون قادراً على الضغط على الحاكم في حالة المخالفة، وسنداً وعوناً له في حالة الإحسان، يسخر كل طاقاته لحشد الأمة حول الحاكم لخدمة الإسلام وحمل رسالته.
وبذلك لا يوجد في الإسلام أحزاب معارضة بالمفهوم الغربي، بل توجد أحزاب مع الحاكم في حالة الإحسان تقويه وتسانده، وتقف في وجهه بقوة في حالة المخالفة والطغيان، فهي تراقب وتحاسب محاسبة حقيقية .
5- الرأي العام النابع عن الوعي العام عند الأمة على الإسلام وعلى الأعمال السياسية الداخلية والخارجية، ولذلك يجب الإبداع في كل الوسائل والأساليب التي ترفع من سوية الرأي العام عند الأمة وجعل العمل السياسي الزاد الذي تقتات منه الأمة .
6- العلماء ودورهم في المحاسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودورهم في الاجتهاد الراقي الذي يغرس في الأمة الحيوية الفكرية ويبعد عنها الانحطاط الفكري، ونكتفي بذكر هذه الضمانات رغبة في الإيجاز .
المحطة الثانية:
فترة خلفاء بني أمية ومن جاء بعدهم من الخلفاء إلى نهاية الخلافة العثمانية وهذه الفترة وقع فيها أخطاء في التطبيق والقصور في رعاية الأمة وظهر ضعف الدولة للعديد من الأسباب منها ما يتعلق بسوء الفهم وإغلاق باب الاجتهاد ومنها ما يتعلق باستبداد الرجال وفسادهم، فترتب على ذلك سوء في التطبيق، إلاّ أن الدولة بقيت دولة إسلامية قائمة على أساس العقيدة الإسلامية والتشريع تشريع إسلامي لم تعرف سواه.
ففي هذه الحالة كان الواجب المحافظة على الدولة الإسلامية والتشريع الإسلامي وإصلاح مواطن الخلل، ويحرم على المسلمين التغيير.
فإن كان الخلل في سوء الفهم وجب بعث الاجتهاد وإطلاقه حتى يُنقى الفقه الإسلامي والتشريع الإسلامي من الآراء الضعيفة والفاسدة.
وإن كان الفساد آتٍ من استبداد الرجال وفسادهم وجب الوقوف في وجوههم لتقويم اعوجاجهم أو خلعهم إن لزم الأمر، أو بإشهار السيف في وجوههم عند إظهار الكفر البواح، حتى تبقى الدولة إسلامية والتشريع إسلامي كما هي حالة ” مصطفى كمال أتاتورك ” الذي أعلن الانقلاب على الإسلام وهدم الخلافة وألغى التشريع الإسلامي، وطبق دساتير الكفر وتشريعات الكفر، فكان الواجب على المسلمين في حينها الوقوف في وجهه بحد السيف، فيكون إشهار السيف من الإصلاح وليس من التغيير ويكون امتثالاً لقوله ” صلى الله عليه وسلم” عندما سألوه منابذة ولاة الأمر بالسيف فقال: ” لا، إلاَّ أن تروا كفرا بواحاً عندكم فيه من الله برهان “.
المحطة الثالثة :
وهي الفترة التي نعيش في يومنا هذا، فالدول قائمة على عقيدة مناقضة لعقيدة الإسلام، عقيدة فصل الدين عن الحياة والشعب هو المشرّع وليس الله، ويحظر على الدين التدخل في شؤون الحياة ويكون التشريع الوضعي هو المنظم لجميع العلاقات في الدولة والمجتمع فكان الفساد في التشريع وعقيدته وفي النظام السياسي ورجاله، ففي مثل هذه الحالة يجب على المسلمين التغيير ويحرم عليهم إصلاح النظام الذي يقوم على عقيدة كفر تلزم الناس أن يحتكموا إليها وإلى تشريعاتها وتجرّم الاحتكام إلى شرع الله، فيجب عليهم اجتثاث النظام من جذوره عقيدةً وتشريعاً، فلا بد من تغيير الأساس العقائدي والنظام التشريعي والكيان السياسي ووسطه السياسي الذي يؤمن بهذا النظام وتربى على موائده .
فالإصلاح في هذه الحالة هو إطالة لعمر الفساد بترقيعه وإعادة إنتاجه من جديد وتقديمه في شكل مقبول للناس للحيلولة دون انهياره وهذا مخالف لشرع الله الحنيف.
ولهذا كله يجب أن يقوم دعاة الإسلام بتقديم البديل الإسلامي المتمثل في الأمور التالية:
1- عقيدة سياسية خلاقة قادرة على إعطاء الحلول لكل ما يواجه البشرية في ظل دولة الإسلام.
2- منظومة تشريعية شاملة لجميع جوانب المجتمع وعلاقاته الداخلية والخارجية.
3- الدستور المحدد لشكل الدولة وجميع أجهزتها ودوائرها، ونظام الحكم الذي يفصّل صلاحيات وطبيعة كل جهاز في الدولة، أي بيان شامل للدستور ونظام الحكم في الإسلام .
ثم بعد ذلك يُنظر في الرجال وكفاءاتهم عند إسناد المهمات لهم, وبذلك يكون بحث الرجال أمراً ثانوياً بالنسبة للقضايا الجوهرية في المشروع العقائدي، ويكون من التضليل وسذاجة التفكير وسطحية المطالب وتهافتها أن نحصُر المشكلة في شخوص الحكام وأعوانهم دون حسم الأساس العقائدي والمنظومة التشريعية والنظام السياسي.
وفي الختام نؤكد أنّ الطريقة الشرعية التي سار عليها رسول الله ” صلى الله عليه وسلم ” في أحداث التغيير هي الواجبةُ الإتباع في هذه الحالة، فنحن مأمورون بالسير عليها والتقيد بها خطوة بخطوة .
قال تعالى : ((لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر)).
قال تعالى: (( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن )).
وقال تعالى: ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)) .
وقال “صلى الله عليه وسلم ” : (( كل عملٍ ليس عليه أمرنا فهو رد ))، وقال “عليه الصلاة والسلام” : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )).
ومن الضروري الرجوع إلى السيرة في هذا الوقت للوقوف على تفاصيل الطريق الذي اختطه رسول الله ” صلى الله عليه وسلم “، في الوقت الذي انطلق فيه المسلمون يؤسسون أحزاب للوصول إلى الدولة التي تطبق الشريعة الإسلامية، بعد أن كان كثيرٌ منهم يتبنى حرمة تشكيل الأحزاب، وينأون بأنفسهم عن الخوض في المعترك السياسي .
ونحن بدورنا نُجمل هذه الطريقة في المراحل التالية :
1- المرحلة التأسيسية أو ما يسمى بمرحلة التربية أو مرحلة التثقيف التي يجري فيها إيجاد كتلة حزبية قد انصهرت في الثقافة الإسلامية المتعلقة بكل ما يلزم لإقامة الدولة وتطبيق الشرع وهي التي أُطلق عليها في السيرة النبوية المرحلة السرية وهي تقتضي السرية في التنظيم والعلنية في الدعوة .
2- مرحلة التفاعل مع الأمة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، حيث يتم الصراع الفكري مع كل فكرة تخالف الإسلام وبيان فسادها، وطرح البديل الإسلامي وهذا يقتضي رسم الخط المستقيم إلى جانب الخط الأعوج وكذلك القيام بالكفاح السياسي حيث يتم التعرض لكل الأعمال السياسية ومحاكمتها من منظور الإسلام ومصالح المسلمين وكشف مخططات الكفار وتعرية القائمين عليها، وبيان فساد الحكام وفساد أعمالهم وبيان ارتباطاتهم، وأثارة الرأي العام عليهم حتى يتم تشكيل الرأي العام في الأمة على الإسلام ومعالجاته وإيجاد القناعة عند جمهور المسلمين بأن البديل الإسلامي هو الكفيل بالنهوض بحال المسلمين في الدنيا ونوال رضوان الله في الآخرة, فيصبح الإسلام هو مطلب لعامة المسلمين، وعندما يتحقق ذلك بحيث يصبح الرأي العام مع الإسلام ويتراجع أمامه كل الآراء، يجري القيام بالأعمال الجادة لاستلام الحكم عن طريق الأمة، وكسب أهل القوة والمنعة منهم إلى جانب أمتهم ومطالبها، فإن لم يكونوا أنصاراً للدعوة يُقبلوا على التضحية بتفانٍ من أجلها فليكونوا على الحياد أي يعملُ على تحييدهم حتى لا تخوض الأمة صراعاً دموياً مع نفسها، وهذا اقتداءً برسول ” الله صلى الله عليه وسلم ” عندما طلب النصرة وأخذ أهل القوة والمنعة من أهل يثرب إلى جانب دعوته، وبهذه الطريقة يُستلم الحكم ويجري تطبيق الإسلام تطبيقاً كاملاً في جميع جوانب الحياة من الأساس العقائدي إلى القوانين الفرعية التفصيلية .
نسأل الله أن يجعل ذلك قريباً ويشرح صدور قادة وضباط الجيوش الإسلامية له وصدور زعامات وشيوخ قبائل المسلمين لهذا الأمر العظيم الذي فيه صلاح الدنيا وعزتها وسعادة الآخرة, ويجعل منهم سعد هذا الزمان إنه قريب مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سعيد رضوان- أبو عماد