تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية” الحلقة السابعة والعشرون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية، مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية، نقول وبالله التوفيق:
عنوان حلقتنا لهذا اليوم هو “الرجاء من الله سبحانه، وعدم القنوط من رحمته”. والمقصود بالرجاء حسن الظن بالله سبحانه، ومن إحسان الظن به تعالى أن ترجو رحمته وفرجه ومغفرته ونصره. وقد مدح الله سبحانه فاعله كما مدح من يخشاه ويخافه، وأوجب الرجاء وحسن الظن كما أوجب الخوف، فينبغي للعبد أن يكون خائفا راجيا، وقد مرت أدلة الخوف، وفيما يلي بعض أدلة الرجاء من الكتاب والسنة:
أما من الكتاب فقد قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم}. (البقرة218) وقال تعالى: {وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين}. (الأعراف56) وقال تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب}. (الرعد6) وقال تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا}. (الإسراء57) وقال تعالى: {ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}. (الأنبياء90) وقال تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب}. (الزمر9)
وأما السنة فمن أدلة الرجاء فيها الأحاديث الآتية:
فعن واثلة بن الأسقع قال: “… فأبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله” (رواه أحمد بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه). وقوله “وإن ظن شرا فله” قرينة على أن الطلب جازم أي أن الأمر بالرجاء، وإحسان الظن في الآيات والأحاديث يفيد الوجوب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني … ” (متفق عليه).
وعن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، قبل موته بثلاثة أيام، يقول: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل” (رواه مسلم).
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: “كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف” ( رواه الترمذي، وابن ماجة، وقال الحافظ المنذري: إسناده حسن).
وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة” (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).
وأما القنوط فهو اليأس، وهما لفظان مترادفان، وهما ضد الرجاء، والقنوط من رحمة الله، وروحه حرام، والدليل على ذلك الكتاب والسنة:
أما من الكتاب: فقوله تعالى: {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايئسوا من روح الله إنه لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون}. (يوسف87) روح الله: فرجه ورحمته. وقوله تعالى: {قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} (الحجر56) وقوله تعالى: {والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم}. (العنكبوت23) وقوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}. (الزمر53)
وأما من السنة فللأحاديث الآتية: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد” (متفق عليه).
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “… وثلاثة لا تسأل عنهم: رجل نازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء، وإزاره العزة، ورجل كان في شك من أمر الله، والقنوط من رحمة الله”. (رواه أحمد والطبراني والبزار، والبخاري في الأدب، وابن حبان في صحيحه، وقال الهيثمي: رجاله ثقات). وعن حبة، وسواء، ابني خالد، قالا: “دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا، فأعناه عليه، فقال: لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما، فإن الإنسان تلده أمه أحمر، ليس عليه قشر، ثم يرزقه الله عز وجل”. (رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان في صحيحه). وعن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: “الشرك بالله، والأياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله”. (رواه البزار والطبراني وحسنه السيوطي).
والرسل صلوات الله عليهم لم يستيئسوا من نصر الله وفرجه، وإنما استيأسوا من إيمان أقوامهم. قال تعالى: {حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}. (يوسف110) روى البخاري أن عائشة رضي الله عنها كانت تقرأ {كذبوا} بالتشديد أي أن التكذيب هو من الأقوام للرسل، لأن الرسل معصومون.
أيها المسلمون:
هكذا كان “الرجاء من الله سبحانه، وعدم القنوط من رحمته، فهلا التزمنا بذلك كما التزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما التزم الصحابة الكرام رضي الله عنهم ليرضى الله تعالى عنا كما رضي عنهم، وليعزنا كما أعزهم، ولينصرنا كما نصرهم؟ نأمل ونرجو ذلك! وما ذلك على الله بعزيز!
إخوتي الكرام:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، على أن نكمل تأملاتنا في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إعداد الأستاذ محمد احمد النادي