الديمقراطية الخديعة
من المفهوم أن يروِّج لهذه الديمقراطية العلمانيون ومن شايعهم، لكن أن يروج لها بعض الإسلاميين فيسوقونها لنا بطريقة مخادعة، ويقزّمون الموضوع إلى درجة تصوير الديمقراطية أنها مجرد الحرية في اختيار الحاكم من خلال صناديق الاقتراع، فإنه لأمر غريب عجيب!
والحقيقة أن الديمقراطية هي فكرة ناتجة عن تصور كلي عن الحياة والكون والإنسان، ناجم عن حضارة تختلف اختلافاً جذرياً عن حضارة الإسلام. فالحضارة الغربية تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وإذا فُصل الدين عن الدولة، فمن الذي ينظم المجتمع والدولة بالأنظمة والأحكام والقوانين؟ إنه الشعب حسب إدعاء هذا المبدأ.
بينما في الإسلام فإن الحاكم والمشرِّع هو الله سبحانه وتعالى، والأمة هي صاحبة السلطان فقط، فقد أعطاها الشارع الكريم الحق في اختيار الحاكم، ولذلك كان عقد الخلافة عقد رضى واختيار، والخليفة نائب عن الأمة في تطبيق الإسلام، فلا الأمة، ولا الحاكم، ولا مجلس الأمة، له الحق في التشريع فضلاً أن يملك القدرة على ذلك.
وحتى نبين ذلك لا بد من إبراز نقاط عدة:
1) لا حكم قبل ورود الشرع:
لقد قرر الشرع الحنيف أن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فإن مصدر الأحكام هو الوحي المنزل على سيدنا محمد، قال تعالى: {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}، وقال تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}.
فكل حكم غير حكم الله هو طاغوت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاَ بَعِيدًا}.
وطريق معرفة حكم الله هو الوحي المنزل على نبيه، ولذلك كان أهل الفترة ناجين؛ وأهل الفترة هم الناس الذين عاشوا بين فترة ضياع رسالة أو تحريفها، ومجيء رسالة جديدة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.
فالذي يريد أن يسوق الديمقراطية لنا اليوم، كمن يدعي أن لا حكم لله، إما رفضاً لهذا الحكم وادعاءً أن عقولنا أقدر على الحكم من الله -والعياذ بالله- أو أننا من أهل الفترة، والادعاءان باطلان.
فالعقل لا حكم له، لأنه لا يملك الأدوات اللازمة للحكم، والادعاء بإعطاء الحكم للعقل هو ادعاء باطل؛ لأن الذي يحكم هنا هو الهوى، والميول، واتّباع المصالح.
والادعاء الثاني باطل أيضاً، لأن النبي هو خاتم النبيين، ورسالته هي خاتمة الرسالات السماوية، والتي تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها من التبديل والتحريف.
إذاً فالديمقراطية تعطي الشعب حقَّ التشريع، والإسلام يعطي هذا الحق لله وحده سبحانه وتعالى، وشتان بين الأمرين، فالأول كفر والثاني إيمان.
2) آليات اختيار الحاكم في الإسلام:
الذين يحصرون الديمقراطية في اختيار الحاكم من خلال صناديق الاقتراع يقزمون الموضوع ويتقزّمون معه.
فالديمقراطية -كما قلنا- تعطي حق التشريع للشعب، وتعزل الدين في الزاوية أو المسجد، والحديث عن الاستفادة من آليات اختيار الحاكم في الديمقراطية تلاعبٌ بالألفاظ وخروج عن أساس الموضوع، وهذا لا ينطلي على أصحاب الفكر المستنير.
فالإسلام ليس خالياً من هذه الآليات…
1- فقد تم اختيار أبي بكر الصديق خليفةً للمسلمين من خلال أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة، ثم ما لبثت الأمة أن بايعته رضي الله عنه في اليوم الثاني في المسجد بيعة الطاعة.
2- أما الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد رشحه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه بعد أن أنابته الأمة عنها ووكلته بذلك ورضيت باختياره لعمر وبايعته.
3- أما في بيعة عثمان رضي الله عنه؛ فإن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخذ رأي المسلمين في المدينة ولم يقتصر على سؤال أهل الحل والعقد.
4- وفي تولية علي بن أبي طالب رضي الله عنه اكتُفِيَ ببيعة أكثر أهل المدينة وأهل الكوفة وأُفْرِدَ هو بالبيعة، فلم يكن أحد يضاهيه في العلم والتقوى والقرب من الرسول صلى الله عليه و سلم .
إذاً فإن ما يسميه بعضهم بـ “الآليات” إنما هي مجرد إجراءات عملية تتم بها عملية تنصيب الخليفة قبل أن يُبايَع، وهي مما يجوز أن تأخذ أشكالاً مختلفة، كما حصل مع الخلفاء الراشدين، إذ لم يُلتزم معهم شكلٌ واحد معيّن، وصندوق الاقتراع هو إجراء عملي لاختيار الخليفة من بين عدد من المرشحين لهذا المنصب، والعمل به ليس مدعاةً لتبني الديمقراطية وإيهام الأمة أن الديمقراطية “بضاعتنا رُدّت إلينا”!
3) الفرق بين الحضارة والمدنية:
كثير من الذين يطالبوننا بأخذ الديمقراطية لا يفرّقون بين الحضارة والمدنية، أو بمعنى آخر لا يفرقون بين ما لا يجب أخذه، وما يجوز أخذه من غير المسلمين، فتراهم يلوون شفاههم بغيظ، قائلين لمن يرفض الديمقراطية: إنكم تستعملون كل أدوات الغرب من التلفاز والكمبيوتر والإنترنت والأسلحة وحتى الملابس فلماذا ترفضون الديمقراطية؟!
وهؤلاء من الذين صدق فيهم قول رسول الله: (لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟!).
إن الديمقراطية ليست شكلاً مدنياً -كالطائرة والصاروخ والإنترنت- لا يخضع لوجهة النظر في الحياة حتى يجوز للمسلمين أخذه من أيٍّ كان بغض النظر عن عقيدته، بل هي نتاج لوجهة نظر معينة تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة.
4) إشكالية الاصطلاح والتعاريف:
لفظ الديمقراطية اصطلاح غربي، يعني إعطاءَ حق التشريع للشعب وحصره فيه. ولهذا المعنى مجموعة من التوابع، فنقول:
– في الديمقراطية للناس الحرية في اختيار الحاكم.
– في الديمقراطية تجري انتخابات حرة لاختيار أحد المرشحين لمنصب ما.
– في الديمقراطية يُحاسب الحاكم من خلال مجلس منتخب.
فالقول بأخذ أو استعارة جزئية من الديمقراطية -كهذه التي ذكرناها- قول مشدود للانبهار باللفظ أكثر من الفكرة، ولا يتفق مع منهج الإسلام؛ لأنه لا مجال لأخذ ما لا يجوز أخذه حين توفر اللفظ الصحيح للفكرة الصحيحة، وهذا يشكل خروجاً عن المعنى الذي وُضع اللفظ لأجله، وهو تعريف ليس جامعاً ولا مانعاً، فهو لم يجمع كل ما هو داخل في التعريف، ولم يمنع ما هو خارج عنه من الدخول فيه.
وبالتالي فإن الديمقراطية ليست هي كما يقول البعض “التعبير العصري عما نسميه بلغة الفقه والثقافة الإسلامية بالشورى”، وكأن المبدأ الإسلامي قاصر عن وضع المصطلح الصحيح، عدا عن كون اللفظ المستعار منافياً لمعنى الشورى.
فالشورى هي حكم شرعي له تفصيلات تتعلق بتنظيم عملية أخذ الرأي في الدولة الإسلامية، وأما الديمقراطية فهي حكم بشري يتعلق بإعطاء الشعب حقَّ التشريع، وفي ظلها يتاح للملحد أن يدعو إلى إلحاده، وللعلماني أن يعلن أن الإسلام غير صالح للعصر، وأن القرآن كتاب بشري يمكن نقده… إلى غير ذلك من دعوات الكفر والإلحاد!!
5) بيان الكذب والخداع في مصطلح الديمقراطية:
القول بأن الديمقراطية هي حكم الشعب، هو أكبر كذبة في العالم.
ففي هذا القول تضليل وخداع، فحتى في أعرق الديمقراطيات في العالم، فإن رؤساء الدول، وأعضاء البرلمانات، ورؤساء الحكومات، إنما يمثلون أصحاب رؤوس الأموال الذين يدفعون المبالغ الطائلة لإيصالهم إلى الحكم لتأمين مصالحهم.
فهل تداول السلطة في ظل النظام الديمقراطي يعني انحصار هذه السلطة في حزبين فقط هما “الحزب الجمهوري” و”الحزب الديمقراطي” في أمريكا، أو “حزب المحافظين” و”حزب العمال” في بريطانيا؟!
إنها صورة مبتدَعة لحكم القبيلة أو العشيرة أو الأسرة المالكة.
6) بيان فساد فكرة المطالبة بالحرية قبل المطالبة بتطبيق الإسلام:
إن الأنظمة العميلة في العالم الإسلامي هي أنظمة عدوة للإسلام، تعمل جاهدة بالتعاون والانصياع للغرب الكافر للقضاء على الإسلام.
والذي يجب أن يدركه أصحاب هذه الأطروحات؛ أن هكذا أنظمة لن تعطي الدعاة إلى الإسلام الحرية في دعوتهم مهما طمأنوا الكافر، ومهما تنازلوا عن بعض دينهم، ومهما حاولوا إرضاء الكفار، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة 120].
فهذه “جبهة الإنقاذ” في الجزائر، كانت على وشك أخذ الحكم بشكل “ديمقراطي” عن طريق صناديق الاقتراع، فتدخّل الجيش وانقلب على الديمقراطية وألغى الانتخابات، وحظَر “جبهة الإنقاذ”، وأودع قادتها في السجون. وأيضا ما حصل مع حماس ليس عنا ببعيد. وها نحن نرى مهزلة الديمقراطية في مصر، في موضوع اختيار الهيئة التأسيسية للدستور، وموضوع الانتخابات الرئاسية، وإصرار دعاة العلمانية في مصر على أن يتم حسم الأمر بعيدا عن الإسلام وأحكامه، برغم أن الأغلبية الساحقة في البرلمان هي للإسلاميين.
ثم على من يطالب بالحرية ويصرّ عليها قبل أن يطالب بتطبيق الإسلام؛ أن يبين لنا ما العمل إذا مُنع من هذه الحرية؟!
7) ليس معنى رفض الديمقراطية المطالبة بالدكتاتورية:
إذا لم تكن ديمقراطياً فأنت دكتاتوري!
إذا لم تكن رأسمالياً فأنت اشتراكي!
إذا لم تطالب بالحرية فأنت نصير الاستبداد!
فأنت دائماً محصور بين خيارين، ولا مناص لك في خيار ثالث!
أنا لست ديمقراطياً، ولست دكتاتورياً، ولا يمكن أن أكون رأسمالياً، أو اشتراكياً، وأنا ضد الحرية بالمفهوم الغربي، وضد الاستبداد.
أنا مسلم، والإسلام هو الأصل وليس البديل، والحاكم في الإسلام ليس دكتاتورياً، بل هو مقيد بالأحكام الشرعية، وهو منصّب لتنفيذ الشرع، ولا يملك إلا أن يُسَيِّر أعماله حسب الأحكام الشرعية، كما أن طاعته واجبة، إلا أن يأمر بمعصية، فلا طاعة له فيها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).
ومحاسبته فرض على الأمة، كما يجب الخروج عليه إذا أظهر الكفر البواح.
ومن المساوىء البارزة في النظام الديمقراطي أنه إذا لم يكن في البلد أحزابٌ كبيرة يمكنها أن تحصل على الأغلبية المطلقة في البرلمان، فإنهم يلجئون في هذه الحالة إلى ما يسمى بالحكومة الائتلافية، تتفق فيها عدة أحزاب على تشكيل ائتلاف حكومي فيما بينها، ويتوافقون على برنامج حكومي ويقسمون المناصب الوزارية فيما بينهم، ويبقى الحكم في هذا البلد غيرَ مستقر وتبقى الحكومة مهددةً دائما بسحب الثقة منها. وهذا هو المشاهد المحسوس في بلدان أوروبية كثيرة، مثل بلجيكا واليونان وإيطاليا وهولندا، وقد تبقى المساومة بين الأحزاب قائمة، وقد تتحكم الأحزاب الصغيرة في الأحزاب الأخرى التي تعرض عليها المشاركة في تشكيل الحكومة فتفرض عليها شروطا صعبة لتحقيق مصالحها الخاصة.
إن الديمقراطية بمعناها الحقيقي هي فكرة خيالية غير قابلة للتطبيق، فالادعاء بأنها حكم الأغلبية مناقض للواقع، فالذي يضع الدستور هم مجموعة من القانونيين والسياسيين، وإن القول بأن هذا الدستور لا يُقَرُّ إلا بعد الاستفتاء الشعبي مردود من عدة نواح:
1- يتشكل الدستور من مجموعة مواد فيها مسائل معقدة لا يدركها إلا أهل الاختصاص، وبالتالي فإن الموافقة أو الاعتراض من باقي الشعب ممن هم ليسوا من أهل الاختصاص لا قيمة له.
2- إذا أُقِرَّت الوثيقة أو التعديلات الدستورية لكون الموافِق عليها أكثرَ من المعترض، فهذا يعني أن هناك فئةً كبيرة من الشعب قد تصل إلى الثلث أو النصف ناقص واحد لم توافق على الوثيقة.
3- إن فئة عمرية قد تشكل 25% من الشعب، وهم فئة الشباب الذين هم دون السنّ القانوني المصرح له بالانتخاب، لا تؤخذ أصواتهم وبالتالي لا يُلتفت إليها في الاستفتاء.
4- كما إن موافقة الموافِق لا تعني موافقةً حقيقية في ظل ضغوط من أطراف خارجية أو تأثير الآلة الإعلامية في تشكيل الرأي العام.
5- إقرارُ دستورٍ ما في فترة ما هو إقرار أغلبية الشعب الموجود في هذه الفترة، لكن بعد جيل أو جيلين يكون الذين صوتوا لصالح هذا الدستور تحت التراب!
6- إن الديمقراطية الحقيقية كما يشهد لها الواقع، هي حكم الأقلية الغنيّة المنظمة التي تتوفر لها القدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة. حتى في أعرق الديمقراطيات كأمريكا وبريطانيا، فإن رؤساء الدول وأعضاء البرلمانات يمثلون إرادة الرأسماليين من رجال الأعمال وكبار الملاك. ولذلك فإن التشريعات التى تُسنّ والقرارت التي تَصدر تكون آخذة بعين الاعتبار مصالح هؤلاء الرأسماليين بالدرجة الأولى، ولا تلتفت إلى مصالح باقي فئات الشعب إلا بالقدر الذي يضمن سكوتهم وعدمَ خروجهم على الدولة والنظام، فهل هناك بعد كل هذا خديعة أكبر من تلك “الديمقراطية الخديعة”؟
شريف زايد
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير ولاية مصر