معالم الإيمان المستنير الدليل العقلي على أن القرآن من عند الله ح3
أيها المؤمنون :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد :
وقفنا في الحلقة السابقة عند شهادة الوليد بن المغيرة في القرآن الكريم, هذا القرشي الكافر الذي أحنى رأسه اعترافا وإعجابا به! ولا ننسى أن القرآن في العرف العام عند قريش له سحر يأخذ بالنفوس والعقول. لذلك اشترطوا على ابن الدغنة الذي أجار أبي بكر رضي الله عنه أن يمنعه من أن يصلي في فناء بيته حيث كان على جانب الطريق, لأن أبا بكر يقرأ القرآن, وقريش تخشى أن يفتن هذا القرآن أبناءها وعبيدها وإماءها ونساءها, فمنذ متى كان سماع الكلام في قريش له مثل هذا التأثير؟ هل يخشون من الكلام وهم أرباب الفصاحة وأمراء البيان؟ ألا تدل هذه الخشية على الاعتراف بتفوق القرآن فصاحة وبيانا؟ ألا تدل هذه الخشية على عميق الاعتراف بإعجاز القرآن؟ وكيف لا والقرآن يتحداهم أن يأتوا بمثله, والتحدي قائم صباح مساء, يقرع أسماعهم, ويخاطب عقولهم؟
تعالوا معي نسمع ما يقوله كبير قريش وهو يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم عرض عليه المال والجاه والسلطان والنساء والطب, فماذا عرض عليه محمد صلى الله عليه وسلم؟ أعرض عليه مالا وجاها وسلطانا؟ أم عرض عليه هذا القرآن؟ لقد عرض محمد صلى الله عليه وسلم معجزته, عرض بعضا من آيات الله! فهل يا ترى كان موفقا في عرضه؟
نقول: نعم, لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم موفقا في عرضه معجزته. روى ابن إسحق صاحب السيرة النبوية أن عتبة ابن ربيعة كان سيدا حليما قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش, ألا أقوم إلى هذا فأكلمه, وأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء, ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة بن عبد المطلب ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون فقالوا: بلى يا أبا الوليد, فقم فكلمه فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:” يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من التوسط في العشيرة والمكان في النسب, وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم, وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم, وكفرت من مضى من آبائهم, فاستمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك أن تقبل منها بعضها “.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قل يا أبا الوليد أسمع ” فقال: يا ابن أخي, إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا, وإن كنت إنما تريد شرفا شرفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك, وإن كنت تريد ملكا ملكناك, وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك, طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ولعل هذا الذي يأتي به شعر جاش به صدرك, فإنكم لعمري يا بني عبد المطلب تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرغت يا أبا الوليد قال: نعم, قال فاستمع مني قال: أفعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بسم الله الرحمن الرحيم حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ). (فصلت3) فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة أنصت له وألقى بيده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه, حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ). (فصلت13) أمسك الوليد بكفه ووضعها على الفم الشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: أمسك يا ابن أخي فلعله يصيبنا بعض الذي تقول! حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك!
ورجع إلى أصحابه, وقد بهرته المعجزة, أخذه الكلام, أقر بالعجز وبالإعجاز, فلما رآه عدو الله الجاهل أبو جهل قال: لقد جاءكم والله أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالواله: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: إني والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط! والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة! يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه, واعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ, فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم, وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم, وكنتم أسعد الناس به! قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! فقال: لم يسحرني, وإنما الرأي ما قلته لكم, فاصنعوا ما بدا لكم! قالوا: يا أبا الوليد, قل لنا قولا نقوله لوفود العرب إن هم قدموا إلى الحج, فلا يحسن أن يكذب بعضنا بعضا, قال: قولوا لأرى. قالوا: أنقول: إنه شاعر؟ قال: لا, لقد عرفت الشعر والنثر, عرفت رجزه وقصيده, وطويله وقصيره, وما كلام محمد بمشبه الشعر أبدا. قالوا: أنقول: إنه كاهن؟ قال: لا, فما كلام محمد بمشبه سجع الكهان. قالوا: نقول: إنه مجنون. قال: لا, فليس في محمد سقطات المجانين ولا زمزمتهم. قالوا: فما نقول إذن؟ قال: أقرب الأقوال أن نقول فيه: إنه ساحر بيان. وفي هذا الموقف نزل قوله تعالى: (إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر ). (المدثر26)
أيها المؤمنون :
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.