معالم الإيمان المستنير التوكل على الله ح6
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد:
كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه من الصحابة y يتوكلون على الله حق توكله, فقد أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوكل عليه في آيات عديدة, فقال مخاطبا إياه في سورة النمل: (فتوكل على الله إنك على الحق المبين). وقال عز وجل في سورة الأحزاب: (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا). وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حروبه الطويلة العديدة لا يخوض معركة حتى يعد لها عدتها, ويهيء لها أسبابها, فيختار مكان المعركة وزمانها, وقد أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يشن غارة في الحر إلا بعد أن يبرد الجو, ويتلطف الهواء من آخر النهار, بعد أن يكون قد رسم خطته, ونظم صفوفه, وإذا فرغ من كل الأسباب المادية المطلوبة لنجاح المعركة رفع يديه سائلا الله عز وجل قائلا: “اللهم منزل الكتاب, ومجري السحاب, وهازم الأحزاب, اهزمهم وانصرنا عليهم”. وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم في الجمع بين الأسباب المادية والروحية التي هي إدراك الصلة بالله تعالى عند القيام بالعمل, فيعلق أمر نجاحه على ربه, وينوط فلاحه وفوزه بمشيئة مولاه تبارك وتعالى.
أيها المؤمنون:
وأثناء الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة انتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه بالهجرة بعد أن هاجر إليها جل أصحابه, وجاءه الإذن بالهجرة, ومن خلال هذه الحادثة التي تجلت فيها حقائق الإيمان والتوكل معا نرى أن رسول الله كان لا ينكر الأسباب, ولا يعتمد عليها, ونرى أيضا أن آخر الأسباب للمؤمن اطراحه بين يدي الله, وتفويضه أمره إليه سبحانه في ثقة واطمئنان. فما الترتيبات التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهجرته؟ للإجابة عن هذا السؤال نقول: عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة قام بإعداد الترتيبات الآتية:
أولا: اتخذ رفيقا من خيرة الرفقاء ليصحبه في طريقه إلى دار هجرته, ألا وهو صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
ثانيا: أعد زاد السفر من طعام وشراب, وقد ربطته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه بنطاقها حتى لقبت ب “ذات النطاقين”.
ثالثا: أعد راحلة ممتازة للركوب عليها في هذا السفر الشاق الطويل, وكلف من يزوده بأخبار العدو. وقد تكفل بذلك أبو بكر الصديق, فاشترى الراحلتين, وكلف ابنه عبد الله بنقل الأخبار من مكة.
رابعا: أحضر عالما خبيرا بمسالك الطريق ودروبها الوعرة؛ ليكون دليلا وهاديا في هذه الرحلة الصعبة, وقد استأجره أبو بكر الصديق رضي الله عنه واسمه عبد الله بن أريقط.
خامسا: أعد خطة للتمويه على العدو الذي ما برح ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته الذي طوقه العدو وحاصره فيه حتى لا ينفلت منه, فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام في فراشه, ثم خرج وترك العدو ينتظر قومته من فراشه الذي يتراءى لهم من خلال شقوق الباب, وهكذا فوت الفرصة على العدو الذي أراد أن يفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم .
سادسا: أعد خطة للاختفاء والاستتار عن أعين طالبيه الناقمين والحاقدين عليه, فلما اشتد المشركون في طلبه, وراحوا يبحثون عنه وعن صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الطريق المؤدي إلى المدينة شمال مكة, أوى مع صاحبه إلى غار ثور الواقع جنوب مكة فدخلا فيه, وهكذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم على تضليل العدو.
سابعا: أعد من يقوم بطمس آثار الأقدام إلى الغار, وهو الراعي الذي كان يعمل عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه واسمه عامر بن فهيرة.
ثامنا: وبعد كل تلك الإعدادات توكل على الله تعالى حق توكله, واعتمد عليه اعتمادا كليا, ووثق به وبنصره ثقة كاملة وأكيدة, لذلك فعندما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم وهما في الغار: “لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا يا رسول الله!”. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : “ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما!؟”. وقال له أيضا: “لا تحزن يا أبا بكر, إن الله معنا!؟”.
أيها المؤمنون:
ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل نبيهم يتوكلون على الله حق توكله: قال تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم).
نزلت هذه الآيات الكريمة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين استجابوا لله وللرسول حين ندبهم لينطلقوا معه إلى الحج, بعد أن أصابهم القرح يوم أحد, حيث أصاب أبو سفيان وأصحابه من المسلمين ما أصابوا ورجعوا, واشتد على المسلمين الذي أصابهم, واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب, فمن ينتدب في طلبه؟”. فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه, وعمر بن الخطاب رضي الله عنه, وعثمان بن عفان رضي الله عنه, وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه, وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعوهم, فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه, فلقي عيرا من التجار فقال: “ردوا محمدا ولكم من الجعل كذا وكذا, وأخبروهم أني قد جمعت جموعا وأني راجع إليهم”. فجاء التجار فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “حسبنا الله ونعم الوكيل”. فأنزل الله تلك الآيات!
أجل حسبنا الله ونعم الوكيل على كل ظالم يظلم المسلمين ويمكر لهم, اللهم دبر لنا فإنا لا نحسن التدبير, وانصرنا على عدوك وعدونا إنك على كل شيء قدير, وبالإجابة جدير!
أيها المؤمنون:
نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.