Take a fresh look at your lifestyle.

خبر وتعليق الخلافة التي لم يتجاوزها الزمن

 

نشرت جريدة الدستور المصرية بتاريخ 14/10/2012 مقالًا للدكتور وفيق الغيطاني المنسق العام لحزب الوفد بعنوان “الخلافة التي تجاوزها الزمن”، والدكتور وفيق بمقاله هذا يدعي باطلاً يكذِّبه الشرع والواقع قبل أن يكذّبه التاريخ، لأن الخلافة لا يمكن أن يتجاوزها الزمن، فهي حكم شرعي واجب الاتباع في كل زمان، والأحكام الشرعية جاءت أصلاً لمعالجة الوقائع، إذ هي خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد. ونظام الحكم هو من الأفعال التي نظمتها الأحكام الشرعية، فحددته بأنه هو الخلافة، ذلك النظام الفريد الذي لا يشبه أيًّا من الأنظمة التي عرفتها البشرية، وهو من التميّز بحيث لا يضاهيه نظام في العالم، لا فيما مضى من عمر البشرية، ولا فيما يستقبل، وأنا لا أدري لماذا هذا الانبهار الذي أصاب الدكتور بنموذج الاتحاد الأوروبي؟، فهو يقول { إن مفاهيم الوحدة الموجودة الآن بين الدول مثل الوحدة الأوروبية نماذج أفضل وحققت نجاحات الكل يشهدها، وسيكون أفضل للدول العربية والإسلامية لو تم تنفيذها من موضوع الخلافة التي تجاوزها الزمن }.

ولنا أن نتساءل ما هي الإنجازات العظيمة التي حققها الاتحاد الأوروبي ولم تحققها الخلافة حتى نتبع سنته؟! فإن تركيز الكاتب على مفاهيم الوحدة التي يرى أن الاتحاد الأوروبي يرسخ لها، ويراها أفضل للدول العربية والإسلامية على حد قوله، مردود عليه أولاً بأن ما بين دول الاتحاد -وأؤكد على كلمة دول- ليست وحدةً حقيقية كما أطلق عليها الدكتور، بل هي اتحاد، وشتان ما بين الوحدة والاتحاد. فنظام الوحدة يعتبر مالية الأقاليم كلها مالية واحدة، وميزانية واحدة تنفق حسب الحاجة على مصالح الرعية كلها، بغض النظر عن فقر أو غنى الأقاليم التي تتشكل منها الدولة، وبغض النظر عن واردات كل منها. وما تقوم به الدول الأغنى في الاتحاد من مساعدة لبعض الدول الفقيرة، يترافق مع تهديدها بإخراجها من الاتحاد إن لم تلتزم بسياسات تقشفية واسعة.

وأنا لا أعلم عن أي وحدة أوروبية يتكلم الدكتور ولم يمر على الاتحاد الأوروبي سوى عقدين من الزمن (منذ اتفاقية ماستريخت سنة 1992م) وهو الآن مهدد بالتفكك والفشل، والجميع يرى تناحر هذه الدول فيما بينها وتصارعها من أجل مصالحها الذاتية، فها هو الاتحاد الأوروبي يفشل في إدخال دول هامة في الوحدة النقدية كإنجلترا مثلًا، حتى إن وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ وصف العملة الموحدة “اليورو” ساخراً بأنها “أكبر ضلال جماعي في تاريخ البشرية”، والأصوات في بريطانيا التي تنادي بالخروج من الاتحاد الأوروبي كلية تكثر وتعلو الآن، ما حدا بوزير المالية الألماني المكسوح “فولفجانج شويبله” أن يسافر بنفسه إلى بريطانيا في كرسيه المتحرك ليترجى الإنجليز بالبقاء في الاتحاد، كما أن هناك دولاً أوروبية مهددة الآن -وعن غير رغبة- بالخروج من منطقة اليورو كاليونان وأيرلاندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا، وكل هذا أثار حفيظة دولة كسويسرا مثلاً من الدخول أصلاً في هذا الاتحاد حتى لا تكون جزءاً من تجربة مهددة بالفشل. وعلى الصعيد السياسي لم يستطع الاتحاد الأوروبي اتخاذ موقف موحد من غزو العراق مثلاً، فبينما كانت بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا جزءًا من التحالف الذي شن العدوان الاستعماري على العراق، عارضت ألمانيا وفرنسا تلك الحرب بقوة. فأين الوحدة الأوروبية المزعومة التي يتحدث عنها الدكتور من كل هذا؟!

وما زالت أوروبا “الموحدة” غير قادرة على تجاوز أزمتها الاقتصادية الخانقة، التي تسبب فيها نظام اقتصادي رأسمالي فاسد يكرس الغنى في فئة قليلة مترفة بينما يتسربل في الفقر قطاع كبير من الناس، يعيشون في دوامة الأقساط المترتبة عليهم لسداد ديونهم التي تقبض على كل مفاصل حياتهم المعيشية. إن ما يجب أن يتجاوزه الزمن ليس كما يدعي الكاتب الدكتور وفيق الغيطاني، نظام الخلافة الإسلامية، بل هو هذا النظام الغربي الرأسمالي العلماني الذي انبهر هو به، وانبهر به الكثير من المضبوعين بما لدى الغرب ولو كان أظهرَ شيءٍ فسادا.

فهل استطاع الاتحاد الأوروبي أو غيره أن يكرر المعجزة التي صنعتها دولة الخلافة الإسلامية بأن صهرت كل تلك القوميات والعرقيات المختلفة في أقاصي مشارق الأرض وأقاصي مغاربها في بوتقة واحدة؟ أخرجت منها أمة عظيمة موحدة، لم تتشرذم إلا بفعل ضربات قوية وجهت إليها من قبل أعدائها، أسقطت دولتها أولاً، ومن ثم قامت بتفتيت بلدانها من خلال اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية إلى كيانات متفرقة هزيلة تفوق الخمسين دولة ودويلة.

لقد تحدث رئيس وزراء بريطانيا كاميرون عن أوروبا بسرعات مختلفة، كما يتحدث الألمان عن منطقة يورو في شمال أوروبا وأخرى خاصة بالمتوسط جرّاء الاختلافات الثقافية والتنوع السياسي وتفاوت القوة الاقتصادية بين الإيطاليين والإسبان والبرتغاليين واليونانيين من جهة، وبين الألمان والسويديين والهولنديين والدنماركيين والبريطانيين من جهة أخرى. هذا عدا الاختلافات اللغوية والعرقية الموجودة بين الأوروبيين، والتي تحول دون تشكل وحدة حقيقية بين دول الاتحاد، ولعل في تصريح وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ بأن ” اليورو سيصبح لحظة تاريخية للحماقة الجماعية ” وتشبيهه لمنطقة اليورو بأنها ” مبنى يحترق من دون أبواب للخروج ” يشكل صفعة في وجه المبهورين بالنموذج الأوروبي.

لقد أخطأ الدكتور خطأ حسابيا نعذره فيه، عندما حسب فترة حكم الخلافة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عام 633م وحتى هدم الخلافة على يد مصطفي كمال عام 1924م الموافق 1342هـ فجعلها 709 سنة فقط، وربما قام بطرح التاريخ الهجري من الميلادي! فقد حكمت دولة الخلافة ما يقارب الثلاثة عشر قرنا، وليس سبعة كما كتب. ثم إنه بعد ذلك مباشرة اقترف خطأ آخر لا نعذره فيه، عندما ادعى أن التاريخ لم يذكر {تطبيق العدل المطلق سوى في عهد عمر بن الخطاب وحفيده عمر بن عبد العزيز” رضي الله عنهما، وهي فترة لا تتعدى 13 عاما فقط خلال القرون “السبعة” من عمر الخلافة}. لقد اختزل الكاتب تلك الخلافة الراشدة التي أجمع على رشدها العدو قبل الصديق، الكافر قبل المسلم، اختزلها في فترة حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ضاربا عرض الحائط بخلافة أبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. ومن أتى بعدهم من هارون الرشيد وغيره وغيره، والدكتور حين استعمل لفظ “العدل” وصفه “بالعدل المطلق” تلبيسا على القارئ، فالعدل المطلق لا يتصف به إلا الله سبحانه وتعالى، الذي من أسمائه العدل، ودولة الخلافة الإسلامية دولة بشرية وليست دولة إلهية، والعدل المنشود فيها هو عدل بشري وليس عدلا إلهيا مطلقا يستحيل تحقيقه، مما يجعل الناس ينفضون أيديهم من الإسلام والمسلمين ويصرفون النظر عنهم، إذ إنهم يفتشون عن الملائكة بين المسلمين فلا يجدونهم.

لقد حكمت دولة الخلافة فترة طويلة من الزمن كانت خلالها هي زهرة الدنيا والمثال الذي يحتذى في العدل والإنصاف، أما حالات الظلم التي حدثت خلال هذا التاريخ الطويل للخلافة، فهي بالقياس إلى ظلم غيرها من الدول والأنظمة التي تعاقبت على البشرية قديما وحديثا نقطة في بحر، فأين مساوئ دولة الخلافة من الظلم والقهر الشنيع اللذين عاشتهما البشرية أيام الرومان واليونان؟ وأين هي من الظلم والظلام في عصور أوروبا الوسطى، ومن ثم الدول الاستعمارية الأوروبية التي قهرت شعوب العالم ومصّت دماءها، إلى دولة العنصرية البغيضة في ألمانيا النازية، ومن بعدها الدولة الأمريكية المتجبّرة الظالمة التي صبت حمم آلاتها الحربية القذرة على هيروشيما ونجازاكي وتورا بورا وبغداد.

فإن دول الاتحاد الأوروبي الذي يتغنى الدكتور بجماله قد بنت نهضتها الصناعية من خلال مص دماء الشعوب بعد أن احتلت أراضيها واستعمرتها ردحا من الزمن، قاتلت خلاله من أجل قهر تلك الشعوب، وجعلها تتسربل بالجهل والفقر والمرض، وعندما تركتها ورحلت، خلفت من ورائها حكاما عملاء باعوا أنفسهم للشيطان في سبيل إرضاء أسيادهم في دول الغرب.

إن النموذج الذي يجب أن تحتذيه الأمة في طريق نهضتها هو نموذج الخلافة الإسلامية، ليس فقط لأنه حقق نجاحات منقطعة النظير في كل المجالات، الاقتصادية منها والعلمية…، وفي إيجاد وحدة حقيقية صهرت الشعوب المختلفة صهراً كاملاً، بل لأنه نموذج يقوم على عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، وقبل ذلك لأنه النظام الذي ارتضاه رب العالمين لهذه الأمة، فأسس بنيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكد على فرضيته من خلال أحاديث صحيحة، وأجمع عليه صحابته رضوان الله عليهم، ومن ثم ساروا عليه، فجعلوا من هذه الدولة، الدولة الأولى في العالم في فترة قياسية من عمر بناء الدول.

إن من يطالب الأمة اليوم بأخذ النموذج الأوروبي في الوحدة ويبعدها عن الوحدة الحقيقية التي تقوم على أساس العقيدة الإسلامية والتي أثبتت صحتها وقوتها، وما زالت تربط أبناء هذه الأمة حتى يومنا هذا رغم تفتيت وحدتها السياسية من قبل الكافر المستعمر، إن من يطالب بهذا فإنما يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فيستبدل حكم البشر بحكم رب البشر، فكيف يدعو مسلم لهذا وهو يقرأ قوله تعالى “أفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ” ويقرأ حديث رسول الله الذي رواه مسلم “من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”، والبيعة لا تعطى إلا للخليفة، فهذا الحديث دليل صريح على فرضية إقامة الخلافة.

 

شريف زايد

رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير ولاية مصر

رابط مقال الدكتور وفيق الغيطاني :


http://www.dostor.org/%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%89/%D8%B5%D8%AD%D9%81-%D8%A3%D8%AC%D9%86%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9/79732-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%89-%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D9%88%D8%B2%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%85%D9%86