في ذكرى سقوط الأندلس ماذا خسرَ المسلمونَ بسقوطِ الأندلسِ؟ ج3
وبدأت الثورات تضعف الدولة، إلى أن جاءها الخليفة القوي عبد الرحمن الناصر، فأعاد للدولة قوتها ومنعتها، وحكم قرابة النصف قرن، لم يصف له فيها إلا أربعة عشر يوما دون كدر، فوحد الأندلس ثانية، وأعاد سيرة الجهاد لما كانت عليه.
وواقع الأمر أن جهده لم يكن كلُّه موجهًا للجيوش والحروب فقط، بل إنه كان متكاملاً ومتوازنًا -رحمه الله- في كل أموره؛ فقد قامت في عهده نهضة حضارية كبرى هي الأروع بين مثيلاتها في ذلك الوقت، استهلَّها -رحمه الله- بإنشاء هياكل إدارية عظيمة، وأَكْثَرَ من الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسؤولاً، ولكل مسؤول وزارة كبيرة تضمُّ عمالاً كثيرين وكتَبَة.
يصف ابن عذاري قُرْطُبَة في هذه الفترة فيقول: «ومما قيل في آثار مدينة قُرْطُبَة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية -رحمهم الله تعالى-: إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار؛ ومساجدها ثلاثة آلاف؛ وعدة الدور التي بقصر الزهراء أربعمائة دار؛ وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته…».
وينقل المقري عن ابن حيان قوله: «إن عدة المساجد عند تناهيها في مدَّة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد، والحمامات تسعمائة حمام، وفي بعض التواريخ القديمة كان بقُرْطُبَة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجدًا؛ منها: بشقندة ثمانية عشر مسجدًا، وتسعمائة حمام وأحد عشر حمامًا، ومائة ألف دار، وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصًا، وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها… إلخ”.
كانت البلاد في عهد عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- تعيش في رخاء منقطع النظير، فكثرت الأموال؛ حتى بلغت ميزانية الدولة ستة ملايين دينارٍ ذهبيٍّ، كان يقسمها ثلاثة أقسام كجدِّه عبد الرحمن الداخل -رحمه الله: ثلثًا للجيش، وثلثًا للبناء والمعمار والمرتبات وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادِّخار لنوائب الزمن.
ونمت الزراعة نموًّا مزدهرًا؛ فتنوَّعت أشجار الفواكه والمزروعات من قصب السكر والأرز والزيتون والكتان، وأوجد مزارع خاصة لتربية دودة القز، كما نَظَّم أقنية الري وأساليب جرِّ المياه، وجعل تقويمًا للزراعة لكل موسم (ومنها انتقلت الزراعة إلى أوربا).
كان من اهتماماته -أيضًا- استخراج الذهب والفضة والنحاس، وكذلك صناعة الجلود وصناعة السفن وآلات الحرث، وكذلك صناعة الأدوية، وقام عبد الرحمن الناصر بإنشاء أسواق كثيرة متخصصة لعرض وتداول مثل هذه البضائع، فكان هناك -على سبيل المثال- سوق للنحاسين، وأخرى للحوم، بل كان هناك -أيضًا- سوق للزهور.
وكانت خُطَّة الشرطة من أهم المناصب الإدارية المتعلقة بضبط النظام والأمن، وكانت قبل عهد الناصر تنقسم إلى مرتبتين، الشرطة العليا، والشرطة الصغرى، ولكنها منذ سنة (317هـ) في عهد الناصر لدين الله قُسِّمت بحسب أهميتها إلى ثلاث مراتب: الشرطة العليا، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى، كما قَسَّم خطة المظالم (أي المحاكم) إلى خطتين عام (325هـ)، وكانت قبل عهد الناصر خطة مفردة تتضمن العرض والمظالم، وجعل العرض خطة مستقلَّة بذاتها، وكذلك المظالم أضحت خطة مستقلة.
ازدهر في عهد عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- العلم والتعليم بصورة ملحوظة، وقد اهتمَّ كثيرًا بمكتبة قُرْطُبَة؛ تلك التي كانت قد تأسَّست قبل ذلك الوقت، فزاد كثيرًا في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، وهو زمن لم تظهر فيه الطباعة بعدُ، وإنما كانت عن طريق النسخ اليدوي.
ذاع صيت عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- في الدنيا كلها، ورضيت منه ممالك الشمال بأن تعطيه العهد والجزية، وقد جاءت السفارات من كل أوربا تطلب ودَّه، فجاءت من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، بل جاءت من أقصى شرق أوربا من بيزنطة، وهي بعيدة جدًّا عن عبد الرحمن الناصر لكنها جاءت تطلب ودَّه وتُهدي إليه الهدايا، وأشهرها كان جوهرة ثمينة وكبيرة، كان يضعها عبد الرحمن الناصر في وسط قصره، الذي يقع في مدينة الزهراء، “وكانت من تحف قصر اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة ثمينة”.
وهكذا كان عزُّ الإسلام ومجده متمثلاً في عهد عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، حتى أصبح -بلا منازع- أعظم ملوك أوربا في القرون الوسطى، وهذا ما جعل إسبانيا سنة (1963م) تحتفل -وهي على نصرانيتها- بمرور ألف سنة ميلادية على وفاة عبد الرحمن الناصر؛ لأنه كان أعظم ملوك إسبانيا على مرِّ العصور، فلم يستطيعوا أن يُخفوا إعجابهم بهذا الرجل الذي رفعهم في العالمين، الذي كانت الأندلس في عهده – وبلا جدال – أقوى دولة في العالم.
حدث ذات مرَّة قحط شديد في الأندلس، فأرسل الناصر رسولاً من عنده يدعو القاضي منذر بن سعيد -رحمه الله- بإمامة الناس في صلاة الاستسقاء، فقال منذر للرسول: ليت شعري ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا؛ إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه، لابس أخس الثياب، مفترش التراب، وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته، وبكى واعترف بذنوبه، وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تُعَذِّب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟! لن يفوتك شيء مني. قال الحاكي: فتهلَّل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله، وقال: يا غلام؛ احمل المطر معك؛ فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا خشع جبار الأرض، فقد رحم جبار السماء. وكان كما قال، فلم ينصرف الناس إلاَّ عن السقيا”.
كتبه العبد الراغب رحمة ربه أبو مالك،
مستقيا جل مادته من موقع قصة الإسلام.