Take a fresh look at your lifestyle.

في ذكرى سقوط الأندلس ماذا خسرَ المسلمونَ بسقوطِ الأندلسِ؟ ج4

 

ثم خلفه ابنه الحكم المستنصر وكانت أيامه أيام العروس أيضا على أهل الأندلس، يقول عنه ابن الخطيب: «وكان -رحمه الله- عالمًا فقيهًا بالمذاهب، إمامًا في معرفة الأنساب، حافظًا للتاريخ، جمَّاعًا للكتب، مميِّزًا للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مِصرٍ وأوان، تجرَّد لذلك وتهمم به؛ فكان فيه حجة وقدوة وأصلاً يُوقف عنده». ويقول عما وصلت إليه الأندلس في عهده من الرقي والتحضر: «وإليه انتهت الأبهة والجلالة، والعلم والأصالة، والآثار الباقية، والحسنات الراقية”.

أنشأ الحكم بن عبد الرحمن المكتبة الأموية، تلك التي تُعَدُّ أعظم مكتباتِ العصور الوسطى على الإطلاق، وكانت تُنافس مكتبة قُرْطُبَة ومكتبة بغداد، وقد دفع آلاف الدنانير لجلب أعظم الكتب إليها من كل مكان في العالم، وكان له عمَّال وظيفتهم الوحيدة هي جمع الكتب من مشارق الأرض ومغاربها من بلاد المسلمين ومن غير بلاد المسلمين، فإذا جاؤوا بكتاب في الفلك أو الطب أو الهندسة أو غيرها من أي بلد غير إسلامي تُرجِمَ على الفور وضُمَّ إلى المكتبة الأموية، وقد وسَّع الحَكم بن عبد الرحمن الناصر في المكتبة كثيرًا، وجعل لها أَرْوِقَةً عظيمةً حتى تستوعب كثرة الحضور من المسلمين.

ومن مآثره أنه عين معلمين ومربين يُعَلِّمون أولاد الفقراء والضعفاء، وأنفق على أجورهم من بيت المال، وبلغت دور التعليم هذه سبعًا وعشرين؛ ثلاثة منها حول جامع قُرْطُبَة، وباقيها في ضواحي المدينة.

كما أنشأ -رحمه الله- جامعة قُرْطُبَة، التي كان مقرها في المسجد الجامع الكبير، وتدرس في حلقاتها مختلف العلوم، وكان يُدَرِّس الحديث أبو بكر بن معاوية القرشي، ويملي أبو علي القالي ضيف الأندلس دروسه عن العرب قبل الإسلام، وعن لغتهم وشعرهم وأمثالهم، وكان ابن القوطية يُدَرِّس النحو، وكان يُدَرِّس باقي العلوم أساتذة من أعلام العصر، وكان الطلبة يُعَدُّون بالآلاف.

ثم جاء عهد المنصور محمد بن أبي عامر، تولَّى الحُكم منذ سنة (366هـ= 976م) وحتى وفاته -رحمه الله- في سنة (392هـ= 1002م)، وقد قضى هذه المدَّة في جهاد دائم لا ينقطع مع ممالك النصارى في الشمال، مع حسن إدارة وسياسة على المستوى الداخلي، حتى صارت الأندلس في عهده في ذروة مجدها، غزا محمد بن أبي عامر في حياته أربعًا وخمسين غزوة، لم يُهزم أبدًا في واحدة منها، بل كان الأغرب من ذلك هو أن يصل في فتوحاته إلى أماكن في مملكة ليون وفي بلاد النصارى لم يصل إليها أحدٌ من قبلُ، بل لم يصل إليها الفاتحون الأوائل؛ مثل: موسى بن نصير وطارق بن زياد.

واستطاع -رحمه الله- أن يغزو النصارى في عقر دارهم، وها هو ذا قد وصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلسي في الشمال، وفي كل هذه الغزوات لم تنكسر له فيها راية، ولا فلَّ له جيش، ولا أُصيب له بعث، ولا هلكت سرية، وكان من المتعارف عليه قبل ذلك أن الجهاد في الصوائف فقط، إلاَّ أن الحاجب المنصور كانت له في كل عام مرتان يخرج فيهما للجهاد في سبيل الله، عُرفت هاتان المرتان باسم الصوائف والشواتي.

جاء عن الحاجب المنصور في سيرة حروبه أنه سَيَّر جيشًا كاملاً لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كنَّ أسيرات لدى مملكة نافار؛ ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من شروط هذا العهد ألاَّ يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم، فحدث ذات مرَّة أن ذهب رسول من رسل الحاجب المنصور إلى مملكة نافار، وهناك وبعد أن أدَّى الرسالة إلى ملك نافار أقاموا له جولة، وفي أثناء هذه الجولة وجد ثلاث نسوة من نساء المسلمين في إحدى كنائسهم فتعجَّب لوجودهن، وحين سألهن عن ذلك قلن له: إنهن أسيرات في ذلك المكان.

وهنا غضب رسول المنصور غضبًا شديدًا، وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه الأمر، فما كان من المنصور إلاَّ أن سيَّر جيشًا جرارًا لإنقاذ النسوة، وحين وصل الجيش إلى بلاد نافار دُهش ملك نافار، وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم، وقد كانت بيننا وبينكم معاهدة على ألاَّ نتقاتل، ونحن ندفع لكم الجزية. وبعزَّة نفس في غَيْرِ كبرٍ ردُّوا عليه: إنكم خالفتم عهدكم، واحتجزتم عندكم أسيرات مسلمات. فقالوا: لا نعلم بهن. فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النسوة الثلاث، فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن؛ فقد أسرهن جندي من الجنود وقد تمَّ عقاب هذا الجندي. ثم أرسل برسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذارًا كبيرًا، ويخبره بأنه قد هدم هذه الكنيسة، فعاد الحاجب المنصور إلى بلده ومعه النسوة الثلاث.

ومما ذُكر عن الحاجب المنصور -أيضًا- أنه -رحمه الله- وهو في جهاده لفتح بلاد النصارى كان قد عبر مضيقًا في الشمال بين جبلين، ونكاية فيه فقد نصب له النصارى كمينًا كبيرًا، فتركوه حتى عبر بكل جيشه، وحين همَّ بالرجوع وجد طريق العودة قد قُطع عليه، ووجد المضيق وقد أُغلق تمامًا بالجنود. فما كان من أمر الحاجب المنصور إلاَّ أن عاد مرَّة أخرى إلى الشمال واحتلَّ مدينة من مدن النصارى هناك، ثم أخرج أهلها منها وعسكر هو فيها، ووزَّع ديارها على جنده، وتحصَّن وعاش فيها فترة، ثم اتخذها مركزًا له يقود منه سير العمليات العسكرية، فأخذ يُرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى، ويأخذ الغنائم ويقتل المقاتلين من الرجال، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتلَّه النصارى ومنعوه من العودة منه.

وهنا ضجَّ النصارى وذهبوا مغاضبين إلى قوَّادهم يعرضون عليهم أن يفتحوا له الباب؛ حتى يعود إلى بلده مرَّة أخرى، أو يجدوا حلاًّ لهم في هذا الرجل، فاستجابوا لهم وعرضوا على الحاجب المنصور أن يُخَلُّوا بينه وبين طريق العودة ويعود من حيث أتى، فما كان من المنصور إلاَّ أن رفض هذا العرض، وردَّ عليهم متهكِّمًا أنه كان يأتي إليهم كل عام مرتين صيفًا وشتاءً، وأنه يريد هذه المرَّة أن يمكث بقية العام حتى يأتي موعد المرَّة الثانية، فيقوم بالصوائف والشواتي من مركزه في هذه البلاد بدلاً من الذهاب إلى قُرْطُبَة ثم العودة منها ثانية.

لم يكن مفرٌّ أمام النصارى سوى أن يطلبوا منه الرجوع إلى بلده ومالوا إلى السلم، فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده، فقال: أنا عازم على المقام, فتركوا له الغنائم، فلم يجبهم إلى الصلح، فبذلوا له مالاً وأعطوه دوابَّ تحمل له ما غنمه من بلادهم، فأجابهم إلى الصلح، وفتحوا له الدرب.

وذات مرة خرج للجهاد في سبيل الله، وبعد أن حقق النصر كعادته على الإسبان، عاد إلى قرطبة ووافق رجوعه صلاة عيد الأضحى والناس في المصلى يكبرون ويهللون، وقبل أن ينزل من على صهوة جواده، اعترضت طريقه امرأة عجوز، وقالت له بقلب متفطر باك: يا منصور كل الناس مسرور إلا أنا، قال المنصور: وما ذاك؟ قالت: ولدي أسير عند الصليبيين في حصن رباح، فإذا بالبطل العظيم الذي لم ينزل بعد من على ظهر جواده، والذي يعلم قدر المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه أمة الإسلام، والذب عن حياض الأمة والدين، إذا به يلوي عنق فرسه مباشرة وينادي في جيشه ألا ينزل أحد من على فرسه ثم ينطلق متوجها إلى حصن رباح ويظل يجاهدهم حتى يجبرهم على إطلاق سراح أسرى المسلمين عندهم ومنهم ولد العجوز.

وكان من عادة الحاجب المنصور -رحمه الله- في جهاده وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه، ويأخذ ما يخرج منه من غبار ويضعه في قارورة، ثم أمر في نهاية حياته أن تُدفن معه هذه القارورة؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى.

أفلا يتفطر القلب ألما وكمدا وحزنا على سقوط دولة هذا بعض تاريخها؟

أولا يعي المسلمون حجم الخسارة التي خسروها بسقوط هذه الدولة العظيمة!!

 

 

 

كتبه العبد الراغب رحمة ربه أبو مالك،
مستقيا جل مادته من موقع قصة الإسلام.