Take a fresh look at your lifestyle.

سقوط الأندلس دروس وعبر ح2

 

الحمد لله مالك الملك, وخالق الخلق, يؤتي الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, ويعز من يشاء, ويذل من يشاء, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير. أما بعد:

أيها الأحبة: أواصل معكم قراءة قصيدة أبي البقاء الرندي. يقول الشاعر:

 

دهى الجزيرة أمر لا عــزاء لــه هوى لـه أحـد وانهـد ثهـلان
أصابهـا العين في الإسلام فامتحنت حتى خلت منـه أقطـار وبلـدان
فاسأل (بلنسية) مـا شأن (مرسية) وأين (شاطبـة) أم أين (جـيان)؟
وأين (قرطبـة) دار العلـوم فكـم من عالم قـد سمـا فيها لـه شان
وأين (حمص) وما تحويه من نـزه ونهرهـا العذب فيـاض ومـلآن
قـواعد كن أركان البـلاد فمـا عسى البقاء إذا لم تبـق أركـان
تبكي الحنيفية البيضاء مـن أسـف! كما بكى لفراق الإلـف هيمـان
على ديـار مـن الإسـلام خاليـة قـد أقفرت ولهـا بالكفر عمران
حيث المساجد قـد صارت كنائس ما فيهـن إلا نواقيـس وصلبـان
حتى المحاريب تبكـي وهـي جامدة حتى المنابـر ترثي وهي عيــدان
يا غافـلا ولـه في الدهر موعظة إن كنت في سنة فالـدهر يقظـان
وماشيـا مرحـا يلهيـه موطنـه أبعـد حمص تغـر المرء أوطـان؟
تلك المصيبة أنسـت مـا تقدمـها وما لها مع طول الدهـر نسيـان
يا راكبين عتـاق الخيـل ضامـرة كأنها في مجـال السبـق عقبـان
وحامليـن سيوف الهنـد مرهفـة كأنهـا في ظـلام النقـع نيـران
وراتعيـن وراء البحـر في دعـة لهـم بأوطـانهم عـز وسلطـان
أعندكم نبـأ مـن أهـل أندلس؟ فقد سرى بحديث القـوم ركبان؟
كم يستغيث بنـا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فمـا يهتـز إنسان؟
ماذا التقاطـع في الإسـلام بينكم؟ وأنتـم يـا عبـاد الله إخـوان؟
ألا نفـوس أبيـات لهـا همـم؟ أما على الخير أنصـار وأعـوان؟
يا من لذلـة قـوم بعــد عزهم أحـال حالهـم جور وطغيـان
بالأمس كانـوا ملوكا في منازلهم واليوم هم في بـلاد الكفر عبـدان
فلـو تراهم حيـارى لا دليـل لهم عليهم من ثيـاب الـذل ألـوان
ولـو رأيت بكاهم عنـد بيعهـم لهالك الأمر واستهوتـك أحـزان
يـا رب أم وطفـل حيـل بينهما كمـا تفـرق أرواح وأبــدان
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت كأنـما هـي ياقـوت ومرجـان
يقودهـا العلج للمكـروه مكرهة والعين باكيـة والقلـب حيـران
لمثل هذا يذوب القلب من كمـد إن كان في القلـب إسلام وإيمـان

أيها الأحبة:

 

هذه هي القصيدة الرائعة المبكية والمحزنة. فما هي الأسباب التي أدت إلى هذه المأساة، دعونا نقف مع بعض هذه الأسباب، وسأقتصر على أهمها, فالأسباب كثيرة ثم بعد ذلك أعرج على بعض الدروس والعبر، وأنبه الإخوة الأحبة: أن كل سبب مما سأذكره، هو نفسه عبرة وعظة لمن ألقى السمع وهو شهيد.

أيها الأحبة:

 

قلنا لكم: دخل الإسلام على يد طارق بن زياد، وموسى بن نصير عام ثلاثة وتسعين هجرية، ثم في خلال ثلاث سنوات فقط انتشر الإسلام انتشارا عظيما في الأندلس، ثم بدأ يزداد ويقوى وبدأ عهد الولاة، ثم بدأ عهد الخلافة، ثم بدأ بعد ذلك في عام أربعمائة وعشرين، أي بعد ثلاثمائة وثلاثين سنة، بدأ عهد الطوائف وبداية عهد الطوائف هي بداية الانحدار في تاريخ الأندلس. ثلاثمائة سنة، كانت عهد القوة, بدأ عهد الطوائف ثم تلاه عهد المرابطين ثم عهد الموحدين، ثم قامت مملكة غرناطة دولة بني الأحمر، واستمرت حتى سقطت في حدود عام ثمانمائة وسبعة وتسعين هجرية. بعد ثمانمائة عام وزيادة, بعد أن بقي الإسلام في هذه البلاد، وحق لنا أن نسأل: ما هي الأسباب التي أدت إلى سقوط الأندلس؟

أول سبب نقف أمامه، هو ضعف العقيدة والانحراف عن المنهج. لما ضعفت العقيدة، وانحرف المسلمون عن المنهج، حل بالمسلمين ما حل بهم. وستلحظون الآن ماذا أقصد بالانحراف عن المنهج؟ وكيف ضعفت العقيدة من خلال الأسباب الباقية, ومن خلال الأمثلة التي سأذكرها، إنما أشير هنا إلى أبيات يبينها أحد الشعراء في هذا المجال فيقول:

 

بعدنا وإن جاورتنا البيوت وجئنا بوعظ ونحن صموت
وأنفاسنا سكنت دفعــة كجهر الصلاة تلاه القنوت
وكنا عظاما فصرنا عظاما وكنا نقوت فها نحن قوت
وكنا شموس سماء العـلا غربنا فناحت علينا البيوت

أيها الأحبة:

 

كل الأسباب تتفرع عن السبب الأول كما ذكرت, وهنا نأتي للسبب الثاني وهو التحالف مع النصارى والخضوع لهم ومجاملتهم. من خلال دراستي لتاريخ الأندلس، فجعت لأنني وجدت أن التحالف مع النصارى بلغ ذروة رهيبة أودت بالأندلس، مفهوم الولاء والبراء، مفهوم الحب والبغض, مفهوم العقيدة الصحيحة، ضعف في نفوس المسلمين. وضعف في نفوس الولاة، وضعف في نفوس الملوك، فحل بالأندلس ما حل بها. أحد المؤرخين، وهو – عبد الله عنان- يذكر ويبين هذه الحالة، وكان يتحدث عن ابن هود فقال: “وكانت تعتور جهوده المثالب القديمة نفسها، فما هي المثالب القديمة، التي كانت تصدع دائما من جهود زعماء الأندلسيين، والتي تتلخص في مصانعة النصارى، ومداراتهم ومساومتهم على حساب المصالح الإسلامية”.

أيها الأحبة: خذوا من ذلك مثلا قصة أحد الولاة، واسمه أبو زيد. هذا الرجل ثار عليه أهل بلنسية، فلما ثاروا عليه، وأرادوا خلعه قام وعقد لواء وذهب إلى ملك النصارى (خاينوي) واتفق معه، وعقد معه معاهدة، وكان من هذه المعاهدة أن يقوم أبو زيد، ويعطي ملك النصارى جزءا من بلاد المسلمين، ويتنازل عن جزء من بلاد المسلمين، وأن يقدم الجزية لملك النصارى! تصوروا المسلم الذي كان يقبض الجزية، أصبح يدفع الجزية في بلاد النصارى، ثم زاد على ذلك بأن اعتنق النصرانية، وأخذ يسير مع حلفائه النصارى في غزواتهم ضد بلاد المسلمين!

أيها الأحبة:

 

نشكركم ونواصل حديثنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

 

أخوكم محمد أحمد النادي.