سقوط الأندلس دروس وعبر -6
الحمد لله مالك الملك, وخالق الخلق, يؤتي الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, ويعز من يشاء, ويذل من يشاء, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير. أما بعد:
أيها الأحبة: ذكرت لكم أن المعاهدة التي عقدت لتسليم غرناطة نقضت بعد سبع سنوات فقط، إذا أين من يدافعون، أو يدعون أن النصارى يمكن أن يفوا بعهد؟ إنني أخاطب أولئك الذين يحسنون الظن في النصارى، فأقول لهم: مهلا مهلا يا دعاة التقريب! مهلا مهلا يا دعاة التخريب! مهلا مهلا يا من أحسنتم الظن بأعداء الله، فركنتم إليهم، إنكم والله مخطئون!
لقد استمات النصارى استماتة عجيبة في سحق المسلمين. يقول المقري في كتابه “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”، واصفا استعداد النصارى لإحدى المعارك: “وجاء الطاغية (دون بطرة) في جيش لا يحصى، ومعه خمسة وعشرون ملكا، وذهب إلى طليطلة، ودخل على مرجعهم البابا، وسجد له وتضرع وطلب منه استئصال ما بقي من المسلمين في الأندلس، وأكد عزمه على ذلك بعهد لاستئصال المسلمين، ومع كل أسف أقول: لقد وفى بعهده, واستأصل المسلمين!”.
أيها الأحبة: ويقول “لوبون” في حضارة العرب: “والحق ما شهدت به الأعداء {وشهد شاهد من أهلها}. اسمعوا ماذا يقول: إن الراهب “بليدة” أبدى ارتياحه لقتل مائة ألف مهاجر من قافلة واحدة، كانت مؤلفة من مائة وأربعين ألف مهاجر مسلم، حينما كانت متجهة إلى إفريقيا، هؤلاء يريدون الهروب من الأندلس، ولكن ما رضي النصارى بهروبهم، قتلوا منهم مائة ألف دفعة واحدة, {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}. هذا قول الحق جل وعلا”. ولذلك يصور أحد الشعراء مأساة المسلمين، واستماتة النصارى في سحقهم وتقتيل رجالهم فيقول:
كم جامـع فيهـا أعيـد كنيسة فاهلـك عليـه أسـى وتجلـد
أقفرت صلواتـها أسفـا عليـها من قانتيـن وراكعيـن وسجـد
كم من أسيـر عندهـم وأسيرة فكلاهما يبغي الفداة ما فـدي
كم من عقيلـة معشـر معقولة فيهم تـود لـو أنها في ملحـد
كم من وليـد بينهـم قـد ود من ولـداه ودا أنـه لـم يولـد
كم من تقـي بالسلاسل موثـق يبكي لآخـر في الكبول مقـيد
وشهيـد معتـرك توزعه الردى ما بين حـدي ذابـل ومهنـد
ضجت ملائكة السماء لحالهـم وبكى لهم من قلبـه كالجلـمد
أفلا تـذوب قلوبكم إخوانـنا؟ مما دهانـا من ردي أو من ردي
كتب الجهـاد عليكموا فتبادروا منه إلى الفرض الأحـق الأوكد
وارضوا بإحدى الحسنيين وأقرضوا حسنا تفوزوا بالحسـان الخـرد
أيها الأحبة: السبب الحادي عشر من أسباب سقوط الأندلس هو الرضا بالخضوع والذل تحت حكم النصارى؛ لأن بعض المسلمين بقوا تحت حكم النصارى وهم المدجـنون، ولم يستمعوا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين”. رواه الترمذي وأبو داود، وهو حديث حسن.
أيها الأحبة: السبب الثاني عشر من أسباب سقوط الأندلس هو عدم الاستقرار السياسي، وكثرة الفتن والمؤامرات، وخير مثال على ذلك أن مملكة غرناطة في خلال سنوات محدودة حكمها قرابة ثلاثين حاكما، وبسبب اضطراب بعضهم لم يحكم إلا عدة أشهر، وبعضهم حكم عدة سنوات، فالاضطراب السياسي يؤدي إلى النهاية المدمرة كما حدث في الأندلس.
أيها الأحبة: السبب الثالث عشر من أسباب سقوط الأندلس هو غلبة الأنانية, وتقديم المصالح الشخصية على مصالح المسلمين، وهذا سبب جوهري، وسبب مهم، إنني ألحظ في بلاد المسلمين الآن من غلبت عليهم مصالحهم الشخصية، تأتيه، وتحدثه عن واقع المسلمين، تحدثه عن المآسي، تحدثه عن الفواجع، ولا يتحرك!! يفكر في وظيفته، يفكر في راتبه، يفكر في مصلحته, لو أتي وأصيب في دنياه؛ لأقام الدنيا، ولم يقعدها، أما في أمور المسلمين فلا يتأثر، إنه في أحسن أحواله يكتفي بأن يسترجع. بل إن بعضهم يخذل العاملين على التغيير، أقول: هذا ما حل بالأندلس، إنهم قدموا مصالحهم الشخصية على مصالح المسلمين وغلبة الأنانية وحب الذات، فسقطت الأندلس.
أيها الأحبة: بعد ذكر واستقصاء الأسباب التي أدت إلى سقوط الأندلس, ننتقل وإياكم إلى ذكر بعض الدروس والعبر المستفادة منه، وكل الأسباب التي ذكرتها هي دروس وعبر، فاستمعوا – بارك الله لنا ولكم – إلى هذه الدروس، عسى أن نتعظ ونعتبر، حتى لا يحل بالمسلمين ما حل بغيرهم فنقول:
أولا: من أبرز الدروس دور العلماء: ذكرت لكم أن من أسباب سقوط الأندلس، عدم قيام بعض العلماء بواجبهم، ومع ذلك فإننا نجد أن هناك من قام بواجبه, والعلماء هم سراج الأمة. إنني أوجه حديثي مرة أخرى، فأقول لعلمائنا ولمشايخنا ولطلبة العلم من أمثالكم: الله الله في أمتكم، الله الله أن تفرطوا، مروا بالمعروف, وانهوا عن المنكر, وبهذا نحفظ كيان الأمة، العلماء هم ورثة الأنبياء. والعلماء لم يورثوا دينارا ولا درهما كما في الحديث, قال عليه السلام: “الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما, ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر”.
أيها الأحبة: قلنا لكم هناك من وقف كأبي الوليد الباجي وابن عبد البر وأبي حيان الأندلسي وابن حزم وغيرهم، ولكن المأساة أنهم لم يستمع لهم، وهنا نقول: يجب على العلماء أن يؤدوا واجبهم حتى لو لم يستمع لهم. قال تعالى: {إن عليك إلا البلاغ}. وقال: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}. ويقول صلى الله عليه وسلم: “يأتي النبي معه الرهط، ويأتي النبي معه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد”. لكنه لا يمنعه من قول الحق، ومن الدعوة إلى الله، هذا درس مهم من دروس الأندلس، ولنا عبرة ولنا عظة ولنا ذكرى. يقول ابن حزم، مبينا دور العلماء: “فالمخلص لنا فيها – يقصد معشر العلماء – يعني من هذه الفتنة التي حلت بالأندلس، الإمساك للألسنة جملة واحدة إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
أيها الأحبة: نواصل حديثنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أخوكم محمد أحمد النادي.