نداءات القرآن الكريم ح23 الأمر بكتابة الدين إلى أجله ج3
(ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم).
الحمد لله الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، ومنهاجا للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وآله وصحبه الطيبين الطاهرين, والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين, واجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نستمع وإياكم إلى نداء من نداءات الحق جل وعلا للذين آمنوا, ومع النداء الحادي عشر نتناول فيه الآية الكريمة الثانية والثمانين بعد المائتين من سورة البقرة التي تسمى آية الدين والتي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه). نقول وبالله التوفيق:
أيها المؤمنون:
يسترسل صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة فيقول: “وهنا ينتهي الكلام عن الشهادة، فينتقل الشارع إلى غرض آخر. غرض عام للتشريع يؤكد ضرورة الكتابة, كبر الدين أم صغر ويعالج ما قد يخطر للنفس من استثقال الكتابة وتكاليفها بحجة أن الدين صغير لا يستحق، أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل والحياء أو الكسل وقلة المبالاة! ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلا وجدانيا وتعليلا عمليا: (ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا). لا تسأموا .. فهو إدراك لانفعالات النفس الإنسانية حين تحس أن تكاليف العمل أضخم من قيمته .. (ذلكم أقسط عند الله). أي أعدل وأفضل. وهو إيحاء وجداني بأن الله يحب هذا ويؤثره. (وأقوم للشهادة). فالشهادة على شيء مكتوب أقوم من الشهادة الشفوية التي تعتمد على الذاكرة وحدها. وشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أقوم كذلك للشهادة وأصح من شهادة الواحد، أو الواحد والواحدة. (وأدنى ألا ترتابوا). أي أقرب لعدم الريبة. الريبة في صحة البيانات التي تضمنها العقد، أو الريبة في أنفسكم وفي سواكم إذا ترك الأمر بلا قيد. وهكذا تتكشف حكمة هذه الإجراءات كلها ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع، ودقة أهدافه، وصحة إجراءاته. إنها الصحة والدقة والثقة والطمأنينة. ذلك شأن الدين المسمى إلى أجل. أما التجارة الحاضرة فإن بيوعها مستثناة من قيد الكتابة. وتكفي فيها شهادة الشهود تيسيرا للعمليات التجارية التي يعرقلها التعقيد، والتي تتم في سرعة، وتتكرر في أوقات قصيرة. ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة كلها قد راعى كل ملابساتها وكان شريعة عملية واقعية لا تعقيد فيها، ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها: (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم).
أيها المؤمنون:
ويرجح سيد قطب الحكم الشرعي الذي فهمه من آية الدين وهو وجوب كتابة الدين والإشهاد عليه فيقول رحمه الله: “وظاهر النص أن الإعفاء من الكتابة رخصة لا جناح فيها. أما الإشهاد فواجب. وقد وردت بعض الروايات بأن الإشهاد كذلك للندب لا للوجوب. ولكن الأرجح هو ذاك. والآن وقد انتهى تشريع الدين المسمى، والتجارة الحاضرة، والتقى كلاهما عند شرطي الكتابة والشهادة على الوجوب وعلى الرخصة فإنه يقرر حقوق الكتاب والشهداء كما قرر واجباتهم من قبل .. لقد أوجب عليهم ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة. فالآن يوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة. (ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله. والله بكل شيء عليم). لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد، بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه. وإذا وقع فإنه يكون خروجا منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه. وهو احتياط لا بد منه. لأن الكتاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة. فلا بد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم، وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات، والحيدة في جميع الأحوال”.
أيها المؤمنون:
ثم وعلى عادة القرآن في إيقاظ الضمير، واستجاشة الشعور كلما هم بالتكليف، ليستمد التكليف دفعته من داخل النفس، لا من مجرد ضغط النص يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيئ أرواحهم للتعليم، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضا والإذعان: (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم). ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين، أخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة، فلم يذكرها هناك في النص العام .. ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتبا. فتيسيرا للتعامل، مع ضمان الوفاء، رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة). (لم ينته الاقتباس).
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا همومنا وغمومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا واجعله حجة لنا لا علينا اللهم آمين آمين يا رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد أحمد النادي