الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط الحلقة الرابعة عشر معركة بلاط الشهداء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحبتنا الكرام، ومع حلقة جديدة من حلقات الأندلس الفردوس المفقود، من الفتح إلى السقوط، وسيكون حديثنا اليوم بإذنه تعالى عن معركة تعد من أشرس المعارك الإسلامية ألا وهي بلاط الشهداء
تحدثنا في الحلقة السابقة عن حال جيش المسلمين وكيف أنه كان مغروراً بعدده وعدته بالإضافة إلى النزاعات التي كانت بين البربر والعرب، أما جيش النصارى فقد قَدِم من باريس بنحو أربعمائة ألف مقاتل، أي ما يقرب من ثمانية أضعاف الجيش الإسلامي، وكان على رأسهم رجل يسمى تشارل مارتل، ويطلقون عليه في العربية: قارله، أما مارتل فهو لقبه ويعني المطرقة، وكان لقّبه به بابا إيطاليا؛ لأنه كان شديدًا على أعدائه، وكان من أقوى حكام فرنسا على الإطلاق، كانت ضخامة جيش الأعداء أمر قد اعتاد عليه المسلمون أو الفاتحون الأوائل، فلم تكن لتهزّهم مثل هذه الأرقام التي قدم بها النصارى من باريس، لكن جيش المسلمين كان فيه من عوامل الضعف الكثير، وفوق ذلك فهو يبعد عن أقرب مركز إمداد له وهو قرطبة بنحو ألف كيلو متر.
في منطقة بواتيه، وفي موقعة من أشرس المواقع الإسلامية على الإطلاق، التقى الجمعان ودارت رحى الحرب، جَمْع المسلمين بما فيه من العوامل التي ذكرناها سابقا من جهة، وجمع النصارى الذي يفوق جيش المسلمين بنحو ثمانية أضعاف كاملة من جهة أخرى، وكانت البداية في شهر رمضان من سنة مائة وأربعة عشر من الهجرة، واستمر القتال لمدة عشرة أيّام متصلة.
ورغم عدم تكافؤ القوتين لصالح النصارى، إلا أن الغلبة في بداية المعركة كانت للمسلمين على قلة عددهم، لكن النصارى في نهاية المعركة فَطِنوا إلى كمية الغنائم الضخمة التي كانت خلف الجيش الإسلامي، فالتفوا حول الجيش وهاجموا الغنائم وبدؤوا يسلبونها، ولأن حب الغنائم كان قد أخذ موقعا في قلوب المسلمين، فكان أن ارتبك المسلمون وأسرعوا ليحموا الغنائم الكثيرة، فحدثت هزة في وحدة صف الجيش الإسلامي وارتباك شديد، كانت نهايته هزيمة قاسية للجيش الإسلامي في هذه الموقعة، موقعة بواتيه، أو موقعة بلاط الشهداء (بلاط هو القصر الذي دارت عنده الحرب، والشهداء لكثرة شهداء المسلمين في هذه المعركة)
لم تذكر الروايات الإسلامية حصرا دقيقا لشهداء المسلمين في بلاط الشهداء، إلا أن بعض الروايات الأوروبية بالغت كثيرًا في أعداد قتلى المسلمين فيها، فتذكر بعضها أن قتلى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم، وهو بلا شك رقم مبالغ فيه جدًا؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يتعد الخمسين ألفا.
وفي رواياتهم يقول الأوروبيون متخوفين أنه لو كان المسلمون قد انتصروا في بلاط الشهداء على الفرنسيين لفتحت أوروبا جميعا، ولدُرِّس القرآن في جامعات أوكسفورد وغيرها من الجامعات الأوروبية، ووالله إنها لتعاسة لهم وخسران أن لم ينتصر المسلمون، فلو انتصروا لكان قد انتشر الخير في هذه البلاد، لكنهم ظلوا في ضلالتهم وظلوا في غيهم يعمهون ويعبدون غير الله سبحانه وتعالى ويشركون به.
ولكن للمسلمين عودة قريبة بإذن الله، يقودهم خليفة المسلمين، لفتح فرنسا وإخراج أهلها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلم الرأسمالية العفنة إلى عدل الإسلام، فرنسا التي يحكمها رجال يتشدقون بالديمقراطية والحرية، وفي نفس الوقت يمنعون المسلمات من ارتداء زيهن الذي فرضه الله عليهن
فرنسا التي امتد جورها على رعاياها ورفعت سن التقاعد عندهم زيادة بالتجبر والتحكم بالعباد
ولو يدرك أهل فرنسا الحاليين عظمة الإسلام والعزة والكرامة التي سيمنحها لهم، لتمنوا عودة الخلافة لتفتح بلادهم من جديد.
بعد هذه المعركة انسحب المسلمون إلى الداخل، ومع أنهم هُزموا وانسحبوا إلا أنها لم تكن هزيمة ساحقة كما صورها الأوربيون، بدليل أن جيش النصارى لم يتبع جيش المسلمين حيث انسحبوا، وكان من عادة الجيوش أنها تتبع الجيش الفار، بل اكتفى النصارى بما أخذوه من غنائم وما قتلوه من المسلمين.
وكما بينا أحبتنا الكرام في بداية هذه السلسلة أن الهدف من استعراضها التعلم والاعتبار من أخطاء السلف، حتى لا يقع فيها الخلف، فكان لا بد لنا من وقفة مع أحداث معركة بلاط الشهداء لنرى أسباب الهزيمة التي حصلت للمسلمين هناك، محاولين بذلك استخلاص العبر منها، وتجنب هذه الأسباب عند قيام دولة الإسلام قريبا إن شاء الله.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ ) {فاطر:5}. فالملاحظ أن المسلمين قد اغتروا بهذه الدنيا التي فتحت عليهم فتنافسوها، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُم).
فسنة لله تعالى في خلقه أنه إن فتحت الدنيا على المسلمين وتنافسوها كما تنافسها من كان قبلهم من الأمم السابقة، فإنها ستهلكهم أيضا كما أهلكت هذه الأمم السابقة ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا ) {فاطر:43}
أمر آخر كان في جيش المسلمين وكان من عوامل الهزيمة وهو العنصرية والعصبيّة القبليّة التي كانت بين العرب والبربر في هذه الموقعة، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذا الذي نشأ بين العرب وبين البربر، ووعت الكتب الفرنسية هذا الأمر جيدا، وظل في ذاكرتها على مدار التاريخ حتى مرت الأيام ومرت السنوات ودخلت فرنسا بلاد الجزائر واحتلتها من سنة ألف وثمانمائة وثلاثين، وحتى سنة ألف وتسعمائة وستين ميلادية، فحين قامت الحركات الاستقلاليّة منذ سنة ألف وتسعمائة وعشرين وما بعدها، وحين فكرت فرنسا في القضاء على هذه الحركات الاستقلالية الناشئة لم تجد أمامها إلا إشاعة الفتنة بين العرب والبربر وضربهم ببعضهم البعض، فكانت تشيع داخل البربر أنهم قريبون من العنصر الآري (وهو العنصر الأوروبي)، وبعيدون عن العنصر السامي (وهم العرب)، أي أنتم منا ونحن منكم والعرب بيننا غرباء؛ وذلك للتشابه الكبير بين البربر والأوروبيين في الشكل الخارجي الأمر الذي لا يعترف به الإسلام ولا يقره على الإطلاق فالمعيار الوحيد في التفاضل في الإسلام هو التقوى.
ولم تكتف فرنسا بذلك، بل قامت بتكثيف تعليم اللغة الفرنسية في مناطق البربر، ومنعت تعليم اللغة العربية في هذه المناطق أصلا؛ وذلك حتى يتم فصل البربر عن العرب تماما في منطقة الجزائر، وهي وإن كانت قد نجحت في أمر اللغة بعض الشيء إلا إنها لم تفلح على الإطلاق في تحويل ديانة البربر الإسلامية إلى النصرانية، فظل البربر على إسلامهم وإن كانت لغتهم قد تغيّرت، في بادئ الأمر كان البربر الذين يعيشون في منطقة الجزائر تسمى قبائل الأمازيغ، وكانوا يمثلون خمسة عشر بالمائة من شعب الجزائر، ورغم أن لهم لغة خاصة بهم وهي الأمازيغية إلا أنهم كانوا يتمسكون بالعربية، لكن حين قامت فرنسا بهذا الأمر بدأت تُذْكي الروح البربريّة في اللغة المنفردة لهذه القبائل؛ فبدأت تعلم اللغة الأمازيغية، حتى إنها أنشأت في فرنسا عام سبعة وستين وتسعمائة وألف أكاديمية خاصة لتعليم اللغة الأمازيغية، وبدأت تكتب اللغة الأمازيغية بحروف لاتينية رغم أنها كانت لغة منطوقة وليست مكتوبة، قامت فرنسا كذلك بحذف الكلمات العربية التي كانت قد دخلت هذه اللغة وأبدلتها بأخرى أصيلة في اللغة البربرية، وبدأت بالفعل في اجتذاب الشباب من البربر لتعليمهم اللغة الأمازيغية في فرنسا، حتى إنه في عام ثمانية وتسعين وتسعمائة وألف أنشأت ما يسمى بالأكاديمية العالمية للبربر، فبدأت تجمع البربر من مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا وتعلمهم اللغة الخاصة بهم، وكل ذلك لفصل العرب عن البربر، تلك الجموع التي ما هي إلا جموع إسلامية ارتبطت برباط العقيدة والدين، لكنها رأت آثار ذلك في وادي برباط وما تلاها فلم تتوان، وفي ذات الوقت الذي تعمل فيه فرنسا جاهدة على إقامة لغة غير العربية في بلد عربي، كانت هي فرنسا التي رفضت المشروع الذي تقدم به جوسبان رئيس وزرائها إلى شيراك سنة تسع وتسعين وتسعمائة وألف بإقرار بعض اللغات المحلية داخل فرنسا، والذي رد عليه شيراك بقوله: إنك بهذا تريد بلقنة فرنسا، أي تجعلها كدول البلقان، بلاد متفرقة بحسب العرق وبحسب العنصر، حلال على الجزائر حرام على فرنسا.
نعود الآن أحبتنا الكرام إلى نتائج معركة بلاط الشهداء حيث استشهد عبد الرحمن الغافقي رحمه الله وبعد هزيمة المسلمين فيها انسحب المسلمون وتوقفت الفتوحات الإسلامية في هذه المنطقة.
بعد عودة المسلمين إلى الأندلس، قام فيهم عقبة بن الحجّاج السلولي رحمه الله وتولى الولاية من سنة ست عشرة ومائة من الهجرة إلى سنة ثلاث وعشرون ومائة من الهجرة، وهو يعد آخر المجاهدين بحق في فترة عهد الولاة الأول.
خُيّر هذا الرجل بين إمارة أفريقيا بكاملها( كل الشمال الأفريقي) وبين إمارة الأندلس ففضل إمارة الأندلس؛ لأنّها أرض جهاد لملاصقتها لبلاد النصارى، وقام رحمه الله خلال سنوات إمارته السبع بأكثر من سبع حملات داخل فرنسا، وكان ينزل إلى الأسرى بنفسه يعلمهم الإسلام، حتى إنه أسلم على يديه ألفان من الأسرى، (لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)، فكيف بألفين!
ولقد استشهد عقبة بن الحجّاج رحمه الله سنة ثلاث وعشرين ومائة من الهجرة، وباستشهاده يكون قد انتهى عهد الولاة الأول أو الفترة الأولى من عهد الولاة.
وسنأتي على بيان الفترة الثانية من عهد الولاة، والولاة الذين كانوا فيها، ودورهم في مجريات الأحداث في الأندلس، فإلى موعدنا القادم، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتبته: أم سدين