أفريقيا بين نور الإسلام وظلام الرأسمالية ح3 الجمهورية الحبيسة في النيجر
يولي البعض جل اهتمامه للظهور بمظهر الإنسان المحايد المنصف المتفهم لدوافع الآخر ووجهة نظره، فتراه يلتمس الأعذار ويتمادى في جلد الذات ساعياً في كل نقاش للتميز بالموضوعية والتحرر الفكري. ومن هؤلاء من ينكر كل الحقائق والشواهد الني تكشف مخططات الدول الاستعمارية في بلاد المسلمين حتى لا يتهم بتبني نظرية المؤامرة التي تتنافى مع الموضوعية والطرح المتوازن. يرددون إنصافاً للعدو المستعمر أن معاناة الناس مع الفقر والفساد والفوضى في أفريقيا ليست متعلقة بالاستعمار وأثره على بلدان أفريقيا بل إن المتسبب الوحيد هو الإنسان الأفريقي، بينما الاستعمار نفع أفريقيا ولم يضرها كما ضرها جهل الناس وتخلفهم. يقولون لو ألقينا اللوم على المستعمر فلماذا لم تقم البلاد النامية بتطوير بلدانهم بعد رحيل المستعمر؟ لماذا لا تسير هذه البلاد المستقلة على درب التقدم والازدهار كغيرها من البلدان؟ ولماذا تُلقون باللوم على المستعمر بعد كل هذه العقود وبعد التحرر من الاستعمار؟ نعم هناك من يدافع عن المستعمر بلا خجل أو حياء. للأسف هناك نفوس اعتادت الذل والظلام ولا تستمع إلا لقول الطغاة “ما أُرِيكُم إِلا مَا أَرى وما أَهْدِيكم إِلا سَبِيل الرَّشاد” صُورَ لهم أن المستعمر جلب الخير والرخاء لشعوب بدائية لم تكن على وعي بالديمقراطية ومتطلبات المجتمع المدني، يرددون كالببغاء أن الأنظمة التي خلفها الاستعمار لم تفشل وأن من طبق هذه الأنظمة الرفيعة لم يكن على المستوى المطلوب، هناك من يشتاق لأيام الاستعمار ويرى فيه العصر الذهبي لأفريقيا بل ويردد أن المستعمر أتى بالخير كله ولكن العيب في الأفارقة الذين لم يقيّموه ولم يقدروه. أمثال هؤلاء يثيرون الشفقة ولا تنفع معهم كل الحجج والبراهين ولكن لمن أراد أن يفهم حجم المؤامرة الاستعمارية على بلاد المسلمين فأفريقيا مليئة بالشواهد والعبر ولعل من أبرز الأمثلة على تآمر الدول الاستعمارية على شعوب أفريقيا مأساة النيجر.
جمهورية النيجر دولة حبيسة (لا تطل على ساحل وتعتمد على غيرها للوصل لمنفذ بحري) وتكثر الدول الحبيسة في أفريقيا حيث توجد كل من تشاد ومالي والنيجر وفولتا العليا وأوغندا وزامبيا وزيمبابوي وبتسوانا وغيرها، وبهذا تضم القارة الأفريقية نصف الدول الحبيسة في العالم. ولا شك أن هذا له أثر بارز في عزلة هذه الدول وافتقارها لعوامل النشاط والحيوية الاقتصادية التي تتمتع بها الدول الساحلية، بالإضافة لاعتمادها على موانئ دول الجوار وتبعات هذا الاعتماد. النيجر ليست حبيسة ومعزولة عن السواحل فقط بل هي محاصرة داخل حدود وضعها المستعمر الفرنسي ليحبس شعباً مسلماً داخل صحراء قاحلة. رفعت فرنسا علم الاستغفال في النيجر ليحتفل الناس بدولة تشكل الصحراء الغربية 80% من أراضيها، صحراء قاحلة على مد البصر تعثر فيها حتى بناء الطرق التي تصل أطرافها المترامية، مما ترك سكان المناطق النائية مقطوعين من الدولة ومحرومين من أبسط الخدمات. أما العشرون بالمائة المتبقية من أرض النيجر ليست بأفضل حالاً فالبشر والإبل يعانون من الجفاف والتصحر الممتد ومساحة الأرض الصالحة للزراعة لا تتعدى الـ 2% فقط من مساحة النيجر.
بالرغم من كونها أكبر الدول في غرب أفريقيا وتمتلك واحد من أكبر احتياطيات اليورانيوم في العالم إلا أن أسعار اليورانيوم متذبذبة وتتحكم فيه الدول الكبرى بحيث يعود النفع عليهم بينما يحرم منه أهل البلاد. هيمنة الدول الغربية تؤثر أيضاُ على عدم استقرار أسعار السلع الغذائية التي تتأثر بسعر النفط في نيجيريا وما يحيط ببيع النفط النيجيري من فساد وتكهنات وعدم استقرار يستغله الرأسماليون في النيجر للعب بأسعار المواد الغذائية وخلق هزات اقتصادية مفاجئة. النيجر تصنف كأفقر دول العالم وأقلها نمواً، برنامج الأغذية العالمي (الفاو) يؤكد على أن نصف سكان النيجر البالغ عددهم 17 مليون نسمة يعانون فقدان الأمن الغذائي. وقد تعرضت منطقة الساحل الأفريقي ومن ضمنها النيجر لثلاث مجاعات متتالية منذ 2005 أدت لخروج الملايين من المشاركة في الإنتاج الغذائي حيث تحول بهم الحال من مزارعين ورعاة إبل إلى مديونين أو نازحين يتنقلون بحثاً عن الماء والغذاء بعد أن نهش الجوع أمعاءهم ولم يجدوا سوى أوراق أشجار صحراوية لم تسلم من الجفاف وسوء الأحوال ليقتاتوا عليها. وصارت النيجر معتمدة على المعونات التي تشكل نصف ميزانية الدولة مما يعني أن الدولة تخضع للوصاية الأجنبية التي تحدد وتتحكم في سير الاقتصاد بل وتشرف بشكل مباشر على تنفيذ السياسات الاقتصادية. في أيار من هذا العام أعلنت الأمم المتحدة (نداء الاستغاثة الدوري لنجدة أهل النيجر) أن قرابة 800 ألف من أبناء النيجر يحتاجون إلى معونة غذائية في الأشهر القادمة، بينهم 84 ألفا بحاجة إلى مساعدات عاجلة لأنهم يواجهون أسوأ أزمة إنسانية بسبب الجفاف. كلما ساءت الأحوال استندجت الحكومات الصورية بالدول الكبرى ومؤسساتها فإذا بهذه المؤسسات الخبيثة تطلق حملات إعلامية تندد فيها بتقاعس حكومة النيجر عن الحد من تعداد السكان في بلد يعد الأعلى عالمياً في نسبة تزايد السكان (بمعدل 7 أطفال لكل أسرة) وتربط هذه المؤسسات بين الفقر وازدياد السكان دون أي معالجة للأسباب الحقيقية وراء الفقر في النيجر. وكيف تعترف هذه الهيئات أن الدول الكبرى ومن قبلهم الاستعمار هو المسؤول عن هذه الكارثة الإنسانية والجريمة التي يندى لها الجبين، كيف تعترف أن الاستعمار فرض نموذج الدولة القطرية وحدودها على بدو رحل يسعون وراء الماء والكلأ في صحراء قاحلة .. لو فعلوها لاعترفوا بالتخطيط لجريمة قتل بطيء لشعب بأسره.
يموت الناس جوعاً وعندما يأتي الموعد السنوي للاحتفال برفع علم الاستقلال تتظاهر الحكومة بالقوة والهيبة والفخر وتبدد الأموال في تزيين الشوراع وترديد الأناشيد الوطنية. أيّ استقلال هذا في بلد تحكمه دول غربية وهيئات أممية تعبث بها؟ أيدّعون الاستقلال وقد ترك المستعمر الفرنسي لغته كلغة رسمية وترك أثره على علم البلاد وعملتها الرسمية وترك عملاء مغيبين ليسوا من جنس الأمة ولا يضيرهم ما يضير الأمة، أي استقلال وقد كون المستعمر طبقة من المثقفين الظلاميين الذين يسبحون بذكره آناء الليل وأطراف النهار ولا يرون مخططات العدو لأنهم مبتلون بعمى البصيرة. لقد نفذ المستعمر مخططاً متكاملاً ليخلق دولة هي بالفعل امتداد لمرحلة الاستعمار والاستعباد. دولة فقيرة تمد يدها لطلب المعونة وتعيش على صيحات الاستغاثة. أهذا هو الاستقلال؟ مثل هذا الاستقلال لا يرضى به إلا ذوو الهمم الدنيئة ويأباه أصحاب الهمم العالية التي تسمو بصاحبها إلى السنا والرفعة وإلى الفردوس الأعلى بإذن الله وحده.
المفارقة الكبرى في تاريخ هذه الدولة الحبيسة أن المستعمر الفرنسي رسم حدودها المقيتة في غرب أفريقيا ليحكم سيطرته على المنطقة وليفرق قوماً أذاقوه الويلات وتحدوا عنجهيته ووقفوا في وجه الاستعمار بكل صوره إنهم قبائل الطوارق، رجال أولي بأس شديد قوم أحرار لا يخافون إلا الله سبحانه ولا يركعون إلا لخالقهم، تركوا كل شيء لوجهه الكريم يقول عنهم ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أن كلمة “الطوارق” جاءت من كلمة “التوارك”، وذلك لتركهم المسيحية ودخولهم الإسلام إبان الفتوحات الإسلامية. لم يقبل الطوارق الذين يهيمون في كامل الصحراء الكبرى بلا قيد أو شرط ويعيشون في أجواء قاسية أن يتمكن المستعمر من رقابهم ورقاب أبنائهم فحاربوه بكل ما لديهم من عدة وعتاد على امتداد القرن التاسع عشر فما كان من المستعمر الفرنسي إلا أن قسمهم بين خمس دول وترك من بقي منهم في النيجر في حدود ما هي إلا حبس في صحراء قاحلة محاصرين اقتصاديا فلا هم انتفعوا بما حباهم الله ولا تُركوا ليسعوا في بلاد الله لينالوا من فضله. أفبعد هذا نرى من يرفع أعلام الاستقلال ويباهي بها الناس. أفيقوا يرحمكم الله.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أم يحيى بنت محمد