مقالة رمضانية حرّاس الملك الجبري
بعد ظهور وسائل الإعلام غير الرسمية، وترويجها لشعارات مثل “الإعلام المستقل”، “الموضوعية”، “الحيادية”، “الرأي والرأي الآخر” .. إلخ ، وجد معظم الناس متنفسًا لهم للاطلاع على الداخل والخارج بدون نظارة النظام، ووجد كذلك كثيرون فرص عمل ومناصب، وأصبح الإعلام غير الرسمي قبلة الناس لمعرفة الأخبار والأحوال وللثقافة والتسلية.
ولم تلبث هذه الشعارات كثيرًا حتى أحس كثير من الناس بزيفها، وأنها مجرد دعايات جذابة لمنتج يصوغ توجهاتك ويحرمك الحقيقة، ويظهر ذلك في مثال صغير وهو توجه البعض لمتابعة تغطية الفضائية الفلانية لموضوع مصر مثلا وعدم متابعة الفضائية العلانية، ولو سألت عن السبب لعلمت بأنهم يتابعون هذه الفضائية دون تلك، لأن هذه تطرح من الأخبار ما يفضلون سماعه وبالصيغة التي يفضلون، بينما تلك تطرح أخبارًا مما لا يفضلون، ولا تطرح الأخبار التي يفضلون، وإن طرحتها فلا تكون بالكيفية التي يفضلون.
وبغض النظر عن سلامة الموقف فإن الانتقائية والميل في سماع أو قراءة أو مشاهدة الأخبار تعتبر غريزية ويمكن فهمها، ولكن من غير المبرر الانتقائية والميل في نقل الأخبار من قبل وسائل الإعلام، وخصوصًا أنها ترفع شعارات كبيرة تدعي بها الأمانة في النقل، الموضوعية، الحيادية، النزاهة، الاستقلالية و…!، فأين هي الحيادية حينما تنقل فضائية الجزيرة مثلا ما يحدث في مصر على أنه انقلاب وتركز على جموع المؤيدين لمرسي، بينما تنقله العربية على أنه ثورة ثانية وتركز على جموع المؤيدين للسيسي؟!
إنهم يريدون للجمهور أن يصدق بأنهم وسائل نقل محايدة كالهواء ينقل الصوت كما هو، وذلك ليحظوا بمصداقية تؤهلهم لمزيد من التأثير على الرأي العام أو مزيد من الربح، ولكن الحقيقة هي أن ما نشاهده هو “إما غير حقيقي كلية، أو يحمل نصف الحقيقة ونصف التشويه” وهو ليس نقلا للواقع كما هو، بل انتقاء بما يخدم الغاية.
فكيف يمكن لعاقل أن يتصور “صحافة حرة” وفي نفس الوقت تتبع لمؤسسات أعمال أو لجهات سياسية تجير كل معلومة وتفسرها لصالحها وتنقل ذلك كحقيقة؟! إنها المغالطة.
في إحدى زياراتي لمدير إحدى الفضائيات الكبيرة في غزة، كان يرد على اتصال مسئوله الذي طلب إعداد تقرير عن موضوع تافه وإثارة موضوع الحريات من خلاله، وكان يقول لمسئوله بأنه غير مقتنع بالموضوع ولكن المسئول أصر، وبعد قليل من حديثنا حول الموضوع جاءته مكالمة حازمة أخرى من المدير العام تأمر بإنجاز التقرير خلال ساعات محددة، وما كان من صاحبنا إلا أن استجاب. لم يكن الموضوع موضوع رؤية مسئول لحدث يستحق التغطية، بل كان الأمر التركيز على حدث لا يستحق التركيز ولا يستحق الذكر على فضائية، ولكن: لكل مؤسسة توجهات وطلبات، هكذا قال لي المدير.
يدرك العاملون في وسائل الإعلام غير الرسمية أكثر من غيرهم عدم واقعية شعارات الحيادية والاستقلالية، ويُسِرُ بعضهم بذلك، ففي اتصال مثلا على مدير فضائية كبيرة أخرى أسأله لماذا لم تنشروا خبر اعتقالات شباب حزب التحرير بالعشرات في الضفة الغربية على شريطكم، بينما تنشرون الآن خبر اعتقال واحد فقط من جماعة أخرى، هل نحن “أبناء البطة السوداء”؟ قال لي: “أنت عارف الصحيح”! في إشارة إلى توجه إدارة الفضائية.
ويدركون كذلك بأنه حتى يستمروا في أعمالهم يجب أن يصوروا بأن كل ما يقوله أو يفعله من تؤيده المؤسسة التي تدعم الوسيلة الإعلامية التي يعملون بها هو وجهة نظر مشروعة بل هو الصواب بعينه، وأن كل ما يقوله أو يفعله الطرف الآخر هو محل نظر أو الخطأ بعينه، أو ربما يذهبون إلى الكذب على الجمهور ليس فقط من خلال طرح الخبر بصيغة خبيثة بل وأيضًا بالصمت، إذ أن الصمت والتعتيم من قبل وسائل الإعلام على خبر مهم أو فيه خير للناس هو كذب، لأنهم يطرحون أنفسهم كوسطاء محايدين لنقل الأخبار ثم يُعَتِمون على الخبر، فيخدعون بذلك الجمهور وكأنهم يقولون له لا وجود لمثل هذا الخبر، أو لا أهمية له على الإطلاق.
إذن فهي ليست وسائل إعلام مستقلة ولا حيادية ولا موضوعية كما تشيع، إنما هي مشاريع لحراسة مصالح الجهات السياسية الخفية والظاهرة التي أنشأت هذه الوسائل، وإذا كان ثمة من وسيلة لا تتبع جهة سياسية فهي تتبع جهة مالية، لذلك فهي تجعل محور اهتمامها هو الربح من خلال الإعلانات أو حجوزات البث أو …، فهي مشروع لحراسة رأس المال ولو على حساب شعاراتها، فعلى سبيل المثال وضعت بعض الشركات الكبيرة المعلنة في وسائل الإعلام تهديدات بسحب إعلاناتها كرد فعل على أي تغطية تحريرية غير مرغوب فيها واستجابت وسائل الإعلام لذلك، ومثال ذلك ما فعله عملاق التمويل مورجان ستانلي في مايو 2005م.
في المنطقة العربية خصوصًا فإن وسائل الإعلام الكبيرة والمؤثرة هي وسائل تتبع عمليًا لأنظمة، وطبقًا لتوجهات هذه الأنظمة تكون توجهات هذه الفضائيات وتوابعها، وتستخدم هذه الأنظمة وسائل الإعلام هذه كأدوات لتطويع الرأي العام وتوجيهه وصناعته أحيانًا ليكون في نفس اتجاهها، فتكون بذلك هذه الوسائل ليست فقط وسائل إعلام غير حيادية وإنما وسائل حراسة للنظام ولمصالحه، بوجه مختلف غير وجه الإعلام الرسمي.
إنها وسائل حراسة الأنظمة بكل معنى الكلمة، إنها آلات الوسوسة المتطورة، إنها أدوات حراسة الديمقراطية وتقديمها كفكر عالمي مستقل ينبغي أخذه كما تأخذ الرياضيات، وشيطنة فكرة الخلافة والداعين لها أو تغييبهم عن الأنظار.
وليس هذا اتهامًا بل هو تقرير لحقيقة يمكن لأي قارئ أن يتبينها من خلال استقراء التغطية الإخبارية لبعض القنوات لبضعة أيام، ولا يتسع المجال هنا لسرد أمثلة أخبار مهمة وكبيرة تم التعتيم عليها أو التقليل من شأنها، وأمثلة أخبار تافهة تم إبرازها والإعلاء من شأنها، وسأورد بعض الأمثلة الحديثة عن التعتيم:
فمثلاً : أقام حزب التحرير في إندونيسيا مؤتمرًا ضخمًا في جاكرتا بتاريخ 2-6-2013م حضره ما يزيد عن 120 ألف مسلم يطالبون بالخلافة، ولم أسمع عن خبره في الفضائيات رغم ملاحقتي وبحثي المتعمد عنه.
ومثلاً أعلن عدد كبير من وجهاء عشائر الضفة توقيعهم على ميثاق نصرة الخلافة خلال مؤتمر كبير حضره عشرات الآلاف في مدينة الخليل بتاريخ 8-6-2013م، ولم تذكر أية فضائية أي خبر لا عن المؤتمر ولا عن توقيع الميثاق.
ومثلا تعامت كل وسائل الإعلام عن فعاليات ويافطات الخلافة الضخمة في المسجد الأقصى على مدى أعوام، وأبصرت صورة محمد مرسي من أول يوم!.
إن وسائل الإعلام لا ينبغي أن تكون حيادية فيما يتعلق بدينها ومصالح أمتها، فهي يجب أن تكون منحازة لدينها وأمتها وفي نفس الوقت بعيدة عن الخداع والكذب، فتكون مع الإسلام ضد العلمانية ومع قضايا المسلمين ضد تدخلات الاستعمار، ويجب أن تتبنى قضايا الأمة وليس حراسة أنظمة الملك الجبري وأفكارها الرجعية مثل حكم الشعب بدل حكم الله. وبزوال الحكم الجبري قريبًا بإذن الله- وكل آت قريب- فإن أدواته ستزول معه، وستظهر وسائل الإعلام التي تحرس الإسلام وتحرص عليه، وتكون عونًا في نشره وإحقاق الحق وإبطال الباطل.
م. إبراهيم الشريف
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين.