مقالة أمريكا والخيارات المتاحة لها في مصر
لقد ظنت أمريكا – دولة الاستعمار الأولى في العالم – أنها قد امتلكت زمام الأمور في مصر، نتيجة هيمنتها وسيطرتها الطويلة على نظام الحكم فيها من خلال المؤسسة العسكرية التي سيطرت عليها منذ الإطاحة بحكم الملك فاروق والمجيء بالضباط الأحرار إلى سدة الحكم، وتركيز تلك الهيمنة بعد اتفاقية كامب ديفيد التي من خلالها استطاعت أن تربط الجيش وقياداته بها تمويلا وتسليحا وتدريبا.
ولعل هذا الظن جعلها تتصرف في مصر تصرف المطمئن الذي يرى الأمور كلها تحت السيطرة والمفاتيح كلها في يده، خصوصا وأن الوسط السياسي في البلاد يكاد أن يكون في الدائرة الأمريكية المغلقة، فأغلب السياسيين والإعلاميين ورجال الأعمال وأصحاب النفوذ تربطهم مصالح وعلاقات مشبوهة بأمريكا ودوائر مخابراتها، التي تكاد تلمس لها وجودا فاعلا ومؤثرا في كل مفاصل الحياة في مصر، في السياسة والاقتصاد والإعلام. ومن السخف الشديد إنكار ذلك التأثير الأمريكي في مصر، بل أقول تلك الهيمنة الفاضحة على مفاصل القرار السياسي في أرض الكنانة.
لقد تخلت أمريكا مرغمة عن عميلها المخلص وسمسارها الأول في المنطقة حسني مبارك، ولم تفكر كثيرا في البديل لأنه كان حاضرا وبقوة، فقد نقل مبارك سلطاته للمجلس العسكري، وليس لرئيس المحكمة الدستورية كما كان ينص الدستور حينها، في خطوة عنجهية من أمريكا وثقة منها في قدرتها على احتواء الثورة ولو بخرق الدستور، وكذلك لم تتردد كثيراً عندما أدارت ظهرها لمحمد مرسي – الرئيس المنتخب، بأن سلمت الدولة للجيش، ولكن بطريقة غير مباشرة هذه المرة تحت ستار حكم مدني، ومن خلال رئيس المحكمة الدستورية الذي أصبح رئيسا مؤقتا دون أن يملك سلطاناً فعلياً للحكم.
ولعل الذي جعل أمريكا تلجأ لهذا الأسلوب تعلمها من الدرس الذي تلقنته عندما وضعت المجلس العسكري في الصورة مباشرة، فالمجلس العسكري لم يستقر له الأمر وظلت المظاهرات تخرج بشكل أسبوعي ترفض حكم العسكر رفضا تاما، مما ورّط العسكر في صدامات مع الناس وإن كانت من خلال الشرطة، لكن الذي تحمل وزرها ولُطِّخ جبينُه بدمائها كان المجلس العسكري، ولهذا كان لا بد من أن يختفي من صدارة المشهد ولو مؤقتا… وعندما يعود فلتكن عودته من وراء ستار حركة شعبية.
ومن المفارقات العجيبة أن تكون هناك قناعات وتسليم مطلق عند كثير ممن كانوا يسمون أنفسهم بالثوار، بقدرة المؤسسة العسكرية وعلى رأسها السيسي على إدارة شئون البلاد، بعد أن خرجوا في ثورتهم الأولى في 25/1 ضد هيمنة هذه المؤسسة تحديداً على شئون الحكم والسياسة، والتي كانت قائمة منذ انقلاب يوليو سنة 1952، وطالبوا حينئذ بملء فمهم عدم تدخل الجيش في شئون السياسة وضرورة إبعاده عن الحكم! أقول من المفارقات العجيبة أن تسمع شخصا كحمدين صباحي، الذي كان يقاتل من أجل أن يكون أول “رئيس مدني” للجمهورية، حتى لو تطلب ذلك منه “التحالف مع الشيطان” كما كان يقول، أن تسمعه يصرح أنه لا يمكن أن يكون منافسا للفريق السيسي في الانتخابات الرئاسية إذا قرر السيسي الترشح لها.
نعم لقد قررت أمريكا التخلص من حكم الإخوان لعدم قدرتهم على إحداث الاستقرار الذي تحتاجه أمريكا في مصر لتحافظ من خلاله على مصالحها، ولقد ظهر عدم الاستقرار هذا من خلال ما يلي:
1- خرجت في ميادين مصر في فترة حكم مرسي 13 مليونية، أي بمعدل مليونية كل شهر.
2- لم يستطع مرسي استيعاب المخالفين له وظل الصراع بينه وبين المعارضة ممثلة في جبهة الإنقاذ مشتعلا.
3- إصرار مرسي على استمرار هشام قنديل رئيسا للوزراء، برغم فشله الواضح في حل أي مشكلة واجهتها حكومته، وبرغم ضعفه السياسي الواضح، وكان الأولى به بحساباتهم البراغماتية أن يرمي الكرة في ملعب المعارضة، ويعرض عليهم رئاسة الحكومة ويضع أي فشل في أعناقهم…، لكنه لم يفعل.
4- كانت هناك بالفعل محاولة لأخونة مؤسسات الدولة كما كانت المعارضة تتهم مرسي، ظهر ذلك في تعيينات المحافظين وبعض الإدارات في الدولة، وقد كان هذا قصر نظر من الإخوان، إذ إنهم قاموا بذلك في أماكن لا قيمة لها، وتركوا مفاصل الحكم الأساسية وهي الجيش والشرطة والقضاء تحت هيمنة الدولة العميقة، التي كان لها الأثر الأكبر في خلعه.
5- لم يستطع مرسي وجماعته كسب ولاء الجيش والشرطة. فالجيش لديه عداء تاريخي للإخوان منذ عهد عبد الناصر، والشرطة بكل أجهزتها كانت الأداة لتعذيب الإخوان، فأصبحت اليوم تحت إمرتهم، وهذا ما لم تقبل به، وكان أعضاء جهاز الشرطة يقولون إنهم “في إجازة لمدة أربعة أعوام”، أي طوال فترة حكم مرسي، بل قاموا بالكيد له أكثر من مرة، ومنها عدم دفع الاعتداء عن قصر الاتحادية.
6- رغم قيام الجيش بعملية “نسر” ضد الجماعات الجهادية في سيناء بأوامر من مرسي بناءً على التزامه أمام أمريكا بأمن إسرائيل، إلا أنه لم يستطع أن يحقق الأمن المطلوب لكيان يهود.
7- لم يستطع مرسي أن يؤثر تأثيرا قويا في الإعلام، يجعله أداة في يده كما كان يفعل مبارك، فإذا بالإعلام ينفلت من يده تماما، ما عدا بعض القنوات الهزيلة التي لا قيمة لها كقناة مصر25، وقناة الحافظ، واستطاع أن يقوم هذا الإعلام بتجييش الناس ضد الإخوان بشكل خاص وضد التيار الإسلامي بشكل عام، يسفِّه الرئيس وكل قراراته. وتحريض الإعلام بهذه الطريقة أدى إلى زيادة التذمر عند الناس بشكل كبير وإلى وجود حالة عدم استقرار واضح لم يكن بالإمكان السكوت عليه.
8- التخبط في اتخاذ القرارات من قبل مرسي وحكومته، فقد كان يتخذ القرار في الصباح ويتراجع عنه في المساء، مثال ذلك قرار رفع الأسعار ورفع الدعم عن بعض السلع، فقد اتُخذ القرار ثم تم تجميده مباشرة تحسبا لإثارة الناس…، خصوصا وأن الاستفتاء على الدستور كان وشيكًا. كذلك تراجعه عن الإعلان الدستوري الذي يحصِّن قراراته. ثم قراره بتعيين النائب العام عبد المجيد سفيرا لمصر في الفاتيكان وتراجعه عنه. وفشله في إدارة موضوع النائب العام بشكل لافت.
9- عملية حصار المحكمة الدستورية لتمرير الدستور وتحصينه، قبل صدور قرار متوقع من المحكمة بعدم دستورية اللجنة التأسيسية. وهو عمل يسقط هيبة الدولة، ويسبب عدم استقرار في أهم مؤسسات الدولة المصرية.
ناهيك عن إدراك أمريكا أن الجيش المصري هو حائط الصد المنيع للمحافظة على مصالحها، وأن ولاء قياداته لها مضمون، وأنه قادر على إزاحة الإخوان والسيطرة على زمام الأمور من خلال أدوات الدولة العميقة التي تدين له بالولاء.
نحن لا نقول أن ما تخطط له أمريكا وما ترسمه كائن لا محالة، بل نقول هذا ما تريده أمريكا، فهي تريد استقرارا لم يستطع الإخوان إحداثه، وهي تراهن على قدرة الجيش والمعارضة – وهما في يدها – على إيجاد هذا الاستقرار، لكن ليس بالضرورة أن يتم لها ما أرادت…
فحتى الآن لم يستطع الانقلابيون إحداث هذا الاستقرار إلا في أذهانهم وإعلامهم المضلل، الذي يتجاهل بشكل واضح المسيرات التي تخرج في مختلف المحافظات منددة بالانقلاب العسكري، والتي تميزت بزخم قوي في أيام الجمع بشكل خاص، كما أن الأمور تزداد سوءا في سيناء التي يخوض فيها الجيش المصري حربا ضروساً على الجهاديين بتنسيق وتعاون واضح مع كيان يهود، ويتم الأمر بعيدا عن الإعلام وضجيجه، ومما لا شك فيه أن مثل هذه الحملة التي لا تفرق بين أهل سيناء، ستزيد من حالة العداء والكراهية لأهل سيناء تجاه النظام الحاكم، فالذي كان ينتظره أهل سيناء هو الاهتمام بهم من وجه آخر غير الوجه الأمني، ورعاية شئونهم بإزالة حالة التهميش السائدة، وعدم المبالاة بوضعهم الاقتصادي والإنساني، فهم على هذا الحال من التهميش واللامبالاة منذ خروج يهود من سيناء بعد اتفاقية كامب ديفيد.
كما أنه لا يمكن للنظام الحالي إحداث استقرار في ظل وضع اقتصادي متدهور يزداد سوءا يوما بعد يوم، برغم الوعود الخليجية بالوقوف بجانب الانقلابيين، وسخائهم المالي الكبير. هذا الدعم الخليجي لا يمكن أن يستمر إلى الأبد كما عبر عن ذلك وزير خارجية السعودية في مقابلة مع قناة فوكس نيوز في الرابع من شهر سبتمبر الحالي، فكثير من المصانع والشركات الكبرى العالمية أغلقت أبوابها في مصر، كما تم تسريح عدد كبير من العمال والموظفين، حتى على صعيد المشاريع الصغيرة، فمنذ الانقلاب قامت العشرات من الشركات العالمية بإغلاق أفرعها في البلاد وإجلاء عامليها. فقد نقلت صحيفة نيويورك تايمز في 20 أغسطس الفائت عن “بروس مكايندو”، مدير بشركة تقدم الخدمات الأمنية والصحية للشركات العالمية في مصر قوله: “قبل دخول الصيف كان لنا في مصر آلاف العملاء، تبقى منهم الآن حوالي 200 شخص، معظمهم عمال شركات يقيمون في مواقع على أطراف القاهرة، حيث يشعرون هناك بخطر أقل من وجودهم في فنادق العاصمة”. وأضاف: “نطالب الآن الجميع بعدم إرسال الناس إلى هنا إن لم يكونوا موجودين بالفعل، حتى الآن معظم الذين غادروا خرجوا في رحلات تجارية عادية، لكن الآن أصبح الوضع أكثر تعقيدا بسبب حظر التجوال”. وأوضحت الصحيفة أنه منذ الانقلاب أغلقت كبرى الشركات مكاتبها في مصر مثل Royal Dutch Shell وجمدت تقريبا نشاطها في البلاد، في حين نقلت الشركات التي واصلت نشاطها عمالها إلى مناطق أكثر أمنا، بجانب إغلاق بعض أفرع مصانع غبور للسيارات.
وأوضحت الصحيفة أن مطار القاهرة الدولي الذي يستقبل 16 مليون سائح سنويا، يشهد ارتباكا كبيرا في مواعيد رحلاته وصلت في بعض الحالات لـ12 ساعة تأخير، مشيرة إلى أن شركات الحراسة المتعاقدة مع تلك الشركات تقوم بنقل الموظفين في شوارع القاهرة داخل عربات مصفحة إلى المطار.
وهذا ينبئ بكارثة اقتصادية ستقع على رؤوس الانقلابيين إن لم يتم تدارك الوضع سريعاً، خصوصا في ظل تنامي الدعوات للعصيان المدني من طرف الجهات الرافضة للانقلاب وما ترتب عليه من نتائج.
ولهذا لا بد من التساؤل عن الخيارات المتاحة أمام أمريكا في مصر في ظل هذه المتغيرات، هل ستستعجل أمريكا الاستقرار الذي تنشده فتعيد حساباتها تجاه قادة الانقلاب ومن ثم تبحث عن بدائل، أم أنها ليست في عجلة من أمرها؟
الذي يبدو أن أمريكا ليست في عجلة من أمرها، طالما أن القتل والذبح والملاحقة والاعتقال يطال المسلمين، وخصوصا من يحمل همّ المشروع الإسلامي في مصر، فلا ضير في ذلك، وطالما أن الوضع تحت السيطرة ولم تظهر قوى فاعلة على المسرح السياسي المصري تهدد نفوذ أمريكا بشكل جاد فالأمر مطمئن لها، خصوصا وهي تعاني مأزقا كبيرا في سوريا يتعلق بعدم قدرتها حتى الآن على حسم الأمور لصالحها، فهي تواجه قوىً كبيرة على الأرض تنادي صراحةً بمشروع الدولة الإسلامية – دولة الخلافة، التي يكاد يرفع لواءها جميع الفصائل المناهضة لحكم آل الأسد وحزبه البعثي الكافر.
ليس أمام أمريكا خيار في مصر سوى المضي قدما في تثبيت أركان الانقلاب والخروج من المأزق بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية بعد إقرار دستور يعيد شكل الدولة المدنية التي صدعت رؤوسنا بالحديث عنها منذ 25 يناير وحتى الآن، وليس أمام المخلصين من أبناء الأمة في مصر من خيار سوى التصدي بقوة لهذا المشروع وتقويض أركانه ومن ثم إسقاطه من خلال عمل دءوب يركز على محوري الأمة والجيش على حد سواء، فالأمة تحتاج إلى مجهود جبار لإحداث الوعي الكافي عندها على مشروع الخلافة المنقذ لها، وهذا لا يقدر عليه سوى الحزب المبدئي الذي يحدد غايته بشكل واضح ويعرف طريقه للوصول لتلك الغاية، والجيش هو مصدر القوة والمنَعَة التي يجب العمل على كسبها، لتنحاز وبقوة لمشروع الخلافة العظيم وتتبناه وتعمل لقلع نفوذ أمريكا من مصر نهائياً وتقضي عليه بالضربة القاضية.
شريف زايد
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير ولاية مصر