مقالات الحزب والثورات نظرة عامة ج2
استفاق العالم على أنباء من تونس الزيتونة، غمي عليها، ولكن ما لبثت الأنباء أن تأكدت بأن ثورة تعصف بأوراق الكفار هناك، وما لبثت المياه الراكدة أن تحركت واشتد زخمها حتى صاح أحدهم “بن علي هرب”. وما لبثت النار حتى اشتدت في أيام عاصفة على الحكام فانتقلت هذه الشرارة إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا الشام. وقد أطاحت هذه الثورات برؤوس طالما استهزأت بدين الأمة ونفت وسجنت آخرين.. فصرخ الكفار من هول ما حدث وكان أمراً لم يتوقعوه، فلم تعد الأمة جبانة ولا راكنة إلى حكامها، ولم تعد ترفع شعار “الحيطان لها آذان” بل هدمت الحيطان على رؤوس حكامها فاستشاط الكفار غضباً وجمعوا جمعهم ونظروا في أمرهم ليتداركوا مآلات ما حصل ويحصل.. وتفتقت قريحتهم عن ورقة خبيثة من شجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ولم تستقر في روح الأمة ولن تستقر بإذن الله تعالى. هذه الورقة هي ورقة الإسلام المعتدل والدولة المدنية والحركات الإسلامية المعتدلة.. فظهرت هذه الورقة في أبشع صورها وأحقرها.. حتى كانت وبالاً على الأمة وسرق الكفار ثورات الأمة بهذه الورقة ولا يزالون مصممين على سرقة ثورة الشام بالورقة نفسها..
نعم، لقد تجلت هذه الورقة بأبشع صورها وطرحت للناس إسلاماً أمريكياً يستند إلى صحيح أوباما ومسند هيلاري وكيري وغيرهم من شياطين الإنس ما أنزل الله بمذهبهم من سلطان، إنما هو إشارات الشيطان تلقفها بعض الملتحين وصاروا يرددونها في جنبات الأرض فكانوا بذلك مطية للغرب من على ظهورهم إلى الأمة فأصابها في مقتل وطعنها في ظهرها.. صاروا يرددون أقاويل عن الإسلام غريبة عجيبة.. فبعد أن كانت القروض الربوية في العهد البائد حراماً ومرفوضة، صارت في عهد الإسلاميين الجدد حلالاً خالصاً.. وبعد أن كانت الخمور والمراقص ومؤسسات السياحة فجوراً في العهود البائدة صارت من أولويات حكومات المتأسلمين وصاروا يشجعون عليها ويعطون التراخيص لها بدل سنتين كما كان سابقاً ليصير ثلاث سنوات في عهدهم، كما وتراهم ينتفضون غضباً حين يسمعون بالخلافة فيرفضونها ويعلنون أنها لا تصلح لهذا العصر مع أن الرسول الأكرم عليه السلام أخبر بأن من مات وليس في عنقه بيعة لخليفة فإن ميتته جاهلية ولم يستعمل هذا التقريع في غير هذا الحديث الشريف.. ويبررون انبطاحهم هذا بأن الأمة غير جاهزة لتحكم بالإسلام، إذن هي جاهزة ومستعدة لتحكم بالكفر عقوداً ولكنها عندهم غير جاهزة لتحكم بالقرآن فلا داعي للخلافة إذن ولا مانع من إطلاق العنان للشيطان أن يسرح ويمرح ويطبق أحكامه علينا فنحن مستعدون لذلك، واعجباً لهذا السقوط الفكري المروع ويا عجباً لهذا الفكر الأعرج الذي يرضي الشيطان ويسخط الرحمن وخصوصاً إذا صدحت به حناجر أصحاب اللحى ومن يدعون العطف على الأمة والخشية عليها..
بأي وجه سيلقون الله تعالى وقد أنزل في قرآنه [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ]، وهم مصرون على أن يحكموا بالكفر الذي حكم به أسلافهم من الطواغيت. بأي وجه سيلقون الله وقد أحلوا للناس شرب وبيع الخمر الذي حرمه الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم “حرمت الخمر لعينها”؟ بأي وجه سيلقون الله وقد أخذوا القروض الربوية وتعاملوا بالربا وقد حرمه الله تعالى فقال [ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ]؟ بأي وجه سيلقون الله تعالى وقد استعانوا بالأجنبي وجعلوا له كل سلطان عليها فاستباح أرضنا حتى بلغ بهم أن يطالبوا به في سوريا محتلاً معززاً مكرماً بل وقد أخذ أرضنا ونقل إليها سجن أبو غريب وغوانتانامو وما ذلك إلا تعبير منه عن وقفة صادقة مع الله!! ألا يستحيون من الله؟ ألا يستحيون من الناس؟ أم أنهم ممن لا يستحيون فيصنعون ما يشاءون؟
إنه ورغم هذا السقوط المدوي لهذه الحركات الإسلامية وللإسلام المعتدل في أحضان الكافر، إلا أن هناك من لم يفقد البوصلة ولم يحد عن الحق قيد أنملة، رغم صعوبة الطريق ووعورته، ورغم ضنك العيش وشظفه، ورغم تقطيع الأعناق ومحاربة الأرزاق.. فقد ظلت طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرة وعلى طريقة نبيها عليه السلام سائرة لم يفت في عضدها من خذلها ولم يوهن أمرها من حاربها.. ظلت تنافح عن الدين وتنفي عنه خبث الحاقدين والمغرضين.
نعم، إن هذه الطائفة، ونسأل الله تعالى أن تكون الطائفة الظاهرة المنصورة، هي حزب التحرير، الذي أسسه سماحة العلامة، المفكر القدير والسياسي الماهر القاضي الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله تعالى. فقد آلمه ما آلت إليه أوضاع الأمة وخصوصاً بعد أن احتل يهود جزءاً من فلسطين وأسسوا عليه دولة مسخاً لهم، فنهض يستنطق القرآن والسنة، ويراجع التاريخ والفقه ويبحث في الحال والمآل حتى توصل من ذلك كله وبعد دراسة مستفيضة بأن الحال لن يتغير إلا بتغير ما بأنفس المسلمين، فكان لا بد من تغيير الإنسان الحالي وتغيير سلوكه ليتفق مع ما يريد الله فينهض يطبق أحكام الشرع في دولة خلافة تزيل الحدود والسدود وتقضي على يهود وتحمل الإسلام للعالم نوراً وهدى..
لقد أدرك حزب التحرير منذ نعومة أظفاره بأن مشكلة الأمة الأساسية هي في غياب الإسلام من واقع حياتها، وأدرك أن ضياع فلسطين قد حصل بعد أن هدمت دولة الخلافة التي كانت ترعى فلسطين وأخواتها، وبالتالي لا بد من إعادة الراعي حتى يعيد للرعية مجدها.
وهكذا بدأ الشيخ النبهاني رحمه الله في ترتيب أوراق الحزب والأمة ليسيرا معا نحو الهدف المنشود، وقد أفنى عمره في هذه الطريق، فكان لا يكل ولا يمل، يتنقل بين مدن المسلمين وقراهم، يحاورهم ويناقشهم في حالهم وحال الأمة وكيفية الخروج من هذا الضياع ويرسم لهم خارطة طريق لعودة الإسلام إلى سدة الحكم. وكان رحمه الله تعالى مجداً مجتهداً مخلصاً في ما نذر نفسه إليه، وطلب النصرة ورتب لانقلابات عسكرية في غير بلد وعاش مطلوباً لحكومات تلك البلاد محكوماً عليه بالإعدام، فبات ملاحقاً مختفياً بعيداً عن الأهل والولد يكافح الكافر وأدواته ويرسم للناس الخط المستقيم إلى جانب الخط الأعوج فينير الله به دروباً كانت مظلمة ويهدي به قلوباً كانت غلفاً، حتى جعل من الحزب قلعة رصينة عصية على الكسر، لا تلين ولا تستكين وفشلت كل المحاولات للنيل من الشيخ أو من حزبه، وقد رفض الإغراءات الكثيرة والكبيرة ورضي بفتات الدنيا على أن تكون له الجنة إن شاء الله تعالى. وبعد (24) عاماً من العمل السياسي المتواصل انتقل الشيخ رحمه الله تعالى إلى رحمة ربه الغفور الرحيم، وقد أدى ما عليه وترك لنا إرثاً فكرياً وسياسياً وفقهياً قل نظيره في العالم.
ثم خلفه في إمارة الحزب من بعده شيخ أزهري وعالم رباني، هو سماحة الشيخ العلامة عبد القديم زلوم رحمه الله تعالى، فصار يزأر بفكر الحزب في جنبات الأرض وجعل يجوب البلاد طولاً وعرضاً طالباً للنصرة ومحاولاً أن يتم البناء الذي أسس قواعده المرحوم، فنشر الحزب أفكاره في مناطق كثيرة من العالم ووصل صدى الخلافة إلى أبعد مدى، حتى صار ذكرها على كثير من الألسنة وتتردد في ردهات صناع القرار في العالم حتى بات ذكرها أو ذكر اسم الشيخ زلوم أو ذكر اسم الحزب يجلب الدوار للسياسيين في العالم. وبعد أكثر من (25) عاما من الإمارة و(50) عاماً من العمل مع الحزب توفي سماحة الشيخ عبد القديم زلوم رحمه الله وقد ترك لنا حزباً شامخاً قد ضرب جذوره في الأرض ووصلت أغصانه عنان السماء وامتد ظلها إلى العديد من دول العالم وتفيأ ظلالها الوارفة ملايين المسلمين ممن يعملون مع الحزب.
ثم خلفهما من بعدهما رجل قوي تقي نقي، هو سماحة الشيخ العلامة عطاء بن خليل أبو الرشتة حفظه الله تعالى، فمنذ أن رست على أكتافه إمارة الحزب، تراه منغمسأً متلبساً بكل ما أوتي من قوة في العمل لاستنهاض الهمم واستنصار الجيوش لإقامة الخلافة، فهو لا يهدأ ولا يكل ولا يمل في طلب النصرة لهذا الدين، يجوب البلدان بحثاً عن أهل نصرة يقيمون للدين دولة، وهو غريب عن الأهل والولد، مطارد، ومع كل ذلك فهو ذو همة عالية في السعي لما يراه فرضاً، يكتب ويؤلف في الفكر والسياسة والفقه ويصدر النشرات في شتى الأحداث، وهو يسأل الله تعالى أن يكلل جهوده وجهود الأميرين من قبله وأعضاء الحزب منذ نشأته حتى يومنا هذا، أقول هو يسأل الله تعالى أن يكلل تلك الجهود الطيبة المباركة بإقامة الخلافة الإسلامية التي على المنهاج فيرضى عنها الله وعباد الله، فنسعد بها ويسعد بنا الناس إنه مولى ذلك والقادر عليه.
وقد أبدى الحزب من قبل الثورات ومن بعدها صلابة في الفكر وثباتاً على الطريقة، لأن ذلك كله حكم شرعي لا قبل لنا بتغييره أو تبديله، وقد انحازت الأمة للحزب حين خرجت على حكامها الأنذال، فهو أول من طرح في الأمة أن حكامها هم في خندق أعدائها وهم من يمنعونها من مقاتلة أمريكا و(إسرائيل)، وهم من أضاعوا ثروات الأمة يمنة ويسرة وتركوا أمتهم تعاني الأمرين، فكان لا بد لنا من الدوس على رؤوسهم وأن نهشم جماجمهم بخلافة العز فنعبر من على جثثهم العفنة إلى خندق القتال ضد العدو الأصلي وهو الكافر، فنحمل له الإسلام لننقذه من مستنقع الرأسمالية وظلمات النصرانية إلى فسحة الإسلام وعدله، فنسعد ويسعدون.
نعم، إن الخلافة هي من يحرر الأقصى قطعاً، فقد عجز الصغار عن ذلك ولم يتقدم أحد ليحرر الأقصى وفق أحكام الشرع، أو يصدق الله في ذلك من الحركات الوطنية إلى حزب إيران في لبنان إلى حركات أخرى فقدت بوصلتها فإذا بها في أحضان الكفار أو في أحضان عملاء الكفار.. وبالتالي لم يحقق أحد ما أراد ولن يحقق أحد ما يراد من تحرير للأقصى إلا بعودة الخلافة، وهذا أمر قد أثبت الواقع صلاحه وصدقه وقد أسقط الشرع والواقع والتاريخ كل النظريات المتهافتة.
إن فلسطين وأخواتها قد سلبت من بين يدي الأمة في غفلة منها، حين أضاعت الحكم بما أنزل الله ولن تعود فلسطين وأخواتها، إلى حظيرة الأمة، ولن يحرر الأقصى إلا بخلافة إسلامية على منهاج النبوة.
ثم إن العالم، كل العالم يتلظى بنار الفرد الرأسمالي، بحقد الرأسمالية وجشعها، فقد جعلت من الإنسان ثوراً مربوطاً إلى ساقية المصلحة، لا يرى غيرها ولا يعرف لغيرها قيمة أو وزناً، فبات العالم أشبه بغابة يتصارع الناس فيما بينهم على المصالح ويتقاتلون لأجلها فتشعل الحروب التي تدمر الزرع والضرع، وتهلك الحرث والنسل، فبات الناس في مستنقع قذر لا يملكون منه خلاصاً، وهم ينشدون الخلاص، ولا خلاص لهم إلا بالإسلام، ولا عزة للإسلام بدون خلافة إسلامية، فلذلك كانت الخلافة الإسلامية منقذة العالم من جشع الرأسمالية وقذارة النصرانية وعبث النظريات المتهافتة والأيديولوجيات الخاطئة، ولذلك كله كان العمل لإقامة هذه الخلافة من أوجب واجبات هذا الدين.
وفي الختام، إن ما يجري من حولنا من أحداث جسام لينطق كل واحد منها على حدة، وتنطق كلها مجتمعة بصحة ما ذهب إليه حزب التحرير منذ بداية ظهوره وعمله، كلها تنطق بأن لا عزة ولا كرامة ولا سؤدد ولا حل لمشكلات الناس عامة والمسلمين خاصة إلا بإقامة الخلافة. وإن حزب التحرير في عهد أميريه المرحومين وأميره الحالي لم يألُ جهداً ولم يدخر مجهوداً ولم يترك باباً يمكنه طرقه إلا طرقه.. كل ذلك من أجل الوصول بالأمة إلى الحكم بما أنزل الله تعالى ورفع الإثم الواقع علينا جراء عيشنا فوق ثلاث بلا إمام يحكمنا بالكتاب والسنة.
ولذلك ترى الحزب قد وقف إلى جانب الثوار في سوريا وقدم لهم النصح وأشار عليهم بما يرضي الله تعالى آملاً من الله تعالى أن ترسو سفينة ثورة الشام على بر الأمان بإقامة حكم الله في الأرض فتصعق الكافرين وتشفي صدور قوم مؤمنين، فتسقط الأقنعة وتداس تحت النعال، فالأمة وقد بدأت تبصر طريقها لعازمة على المضي بثوراتها وأبنائها حتى تعبر بهم بر الأمان، إلى شاطئ الخلافة وتطبيق الإسلام كما يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض..
اللهم عجل بقيام دولة الخلافة واجعلنا من شهودها وجنودها يا رب. آمين.
د. محمود محمد