الهجرة وثورة الشام
الهجرة ليست حدثا عابرا، وليست رحلة عادية، وليست انتقالاً من مكان لمكان فحسب، بل هي حدث غير مجرى التاريخ، بل قل إنها حدث بدأ به تاريخ العز عند المسلمين؛ حيث إن ابن الخطاب رضي الله عنه خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها بداية للتأريخ عند المسلمين لما لها من أهمية في حياة المسلمين؛ حيث كانت الهجرة انتقالاً من حياة الاستضعاف والخوف من تخطف الناس للمسلمين إلى حياة العز والشموخ والأمن والأمان، هي انتقال من الضعف إلى القوة، من الملاحقة والاضطهاد إلى التمكين.
نعم، إن الهجرة هي بداية لأول دولة في الإسلام بناها النبي صلى الله عليه وسلم بناء متينا أقيمت على سواعد صحابته الكرام الذين أشربوا عقيدة التوحيد وثقفوا بثقافة الإسلام، فكانوا بحق شخصياتٍ إسلاميةً قادرةً على إقامة دولة الإسلام وحمل رسالة الإسلام إلى العالم بالجهاد في سبيل الله؛ لذلك فالهجرة ذكرى بحق يجب الوقوف عندها واستخلاص الدروس والعبر.
فمما ورد في السيرة أن المشركين أجمعوا أمرهم واتفقوا على أن يأتوا بأربعين رجلا، كل رجل من قبيلة، فيضربوا النبي صلى الله عليه وسلم ضربة رجل واحد، فيضيع دمُهُ بين القبائل، مؤامرة دبرت بليل لإفشال مشروع النبي صلى الله عليه وسلم في سيره لبناء صرح الإسلام، حال تمر بها اليوم ثورة الأمة في الشام؛ فها هم سادة الكفر في العالم يجتمعون ويأتمرون ويتآمرون لإجهاض ثورة الشام ولإفشال مشروعها في إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فمن المجلس الوطني إلى مجلس الدوحة إلى مؤتمر أصدقاء (أعداء) سوريا إلى جنيف 1 وجنيف 2 وما ذلك، إلا لأن أهل الشام أعلنوا صريحا مطلب ثورتهم، فقالوا: لن نركع إلا لله، وقالوا: الأمة تريد خلافة إسلامية.
إن الناظر الفطن في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليرى بوضوح حقد الكفار وتآمرهم على الإسلام، والكفر ملة واحدة وحقدهم واحد ومكرهم واحد مهما غيروا من الأساليب ومهما تشدقوا بعبارات براقة من حقوق إنسان وحريات وغيرها، فإننا نعرفهم بوضوح؛ فقد أخبرنا رب العزة عنهم خبرا يقينا فقال تعالى:((قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ))، فبالأمس صرح أحد رؤوس الكفر الداعمين لطاغية الشام وزير خارجية روسيا لافروف، صرح قائلا: “أكثر المجموعات المسلحة قوة في سورية هي المجموعات الجهادية التي تضم العديد من المتطرفين الذين جاؤوا من كل أرجاء العالم، والأهداف التي يسعون لتحقيقها ليست لها أي علاقة بالديمقراطية، وهي تقوم على مبادئ التعصب، ويهدفون إلى تدمير الدول العلمانية، وإقامة خلافة إسلامية”.
وقد سبقه غيره كثير يحذرون من قيام الخلافة التي ستقض مضاجعهم والتي ستدمر أحلامهم في مص دماء الشعوب ونهب ثرواتهم، فكما أن اجتماع كلمة الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد نفعا ولم يقف عائقا أمام سير دعوة النبي، بل استمر صلوات الله وسلامه عليه ثابتا لا يأبه بجبروتهم ولا بقوتهم ووضع التراب على رؤوسهم وخرج مطمئنا آمنا، وعندما حَذِر الصدّيقُ العدوَّ وقال يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال النبي الواثق بنصر الله والمطمئن لوعده: «لا تحزن إن الله معنا».
كذلك هم المؤمنون في كل زمان، كذلك هم المخلصون في ثورة الشام، رغم أن الكفار حشدوا جهودهم لحرب الإسلام وأهله وللقضاء على ثورة الشام المباركة إلا أن أهل الشام واثقون بوعد الله يرجون نصره وهم يعلمون أنه “وما النصر إلا من عند الله”، فإذا ما غفل أحدهم عن وعد الله وأنساه الشيطان أن النصر بيد الله وحده ذكّره إخوانه وأعانوه وقالوا: لا تحزن إن الله معنا، حقا إن الله معنا إذا كنا مع الله وإذا نصرنا دين الله ((إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)).
ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تبعث في نفوسنا الأمل من جديد نحو خلافة ثانية على منهاج النبوة؛ فكما سار النبي نسير، وكما صبر نصبر، وكما ضحى صحابته الكرام نضحي؛ ولذلك كما أكرم الله نبيه ومن معه فكذلك سيكرم أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي لطالما حلمت أن يحكمها كتاب الله تعالى ولطالما اشتاقت لتبايع خليفة المسلمين الذي طال انتظاره، لكننا عندما نعيش ذكرى إعلان أول دولة للمسلمين فإننا نوقن أن النصر مع الصبر وأنه لن يغلب عسر يُسريْن، وأن أشد ساعات الليل حلكة تلك التي تسبق بزوغ الفجر، نعم إننا الآن ننتظر فجر الخلافة يبزغ من جديد ليشرق على العالم أجمع بالخير والبركة.
إن هجرة الحبيب المصطفى تحمل معانيَ عظيمة لمن تدبرها؛ فلماذا ترك عليًّا رضي الله عنه أمينا على ما أؤتمن عليه، ولماذا جهز دليلا على الطريق، ولماذا اختبأ في الغار ثلاث ليال؟ لماذا غير الدليل الطريق المعروفة إلى المدينة؟؟ أسئلة كثيرة ترد لتقول أليس الله هو الذي أسرى به إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى السماء السابعة، وكل ذلك في ليلة واحدة، أليس بقادر أن ينقله بلحظات إلى المدينة المنورة ويخلصه من شر ما يكيد له الكفار؟؟
نعم، إن المتبصر بهذه الأسئلة ليعلم تماما أن النبي يعلمنا درسا في التوكل على الله لا كما يفهمه كثيرٌ من الناس؛ حيث الواجب الأخذ بجميع الأسباب التي من شأنها أن تؤتي النتيجة ومن ثم التوكل على الله حق التوكل؛ فيقول النبي بعد أن أخذ بالأسباب وفي لحظة لا يملك فيها فعل أي شيء “لا تحزن إن الله معنا”؛ ذلك لنعلم أن الوصول إلى الأهداف لا بد له من عمل، وأننا مطالبون بالعمل بكل ما نملك حتى نستحق نصر الله. فالله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين بالتمكين والاستخلاف ولم يكتف بالإيمان بل زاد عليه وقال:((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)).
ودرسا آخر لنعلم أن إقامة الدولة الإسلامية هي من ضمن الممكنات وليست حلما وليست مستحيلا مهما واجهنا في ذلك الصعوبات ومهما وقفت أمامنا العقبات، وأن إقامة الدولة لا تتنزل من السماء ولن تقوم بالتمني والرجاء بل لا بد من العمل الجاد، ولا بد من التضحية بالغالي والنفيس لتحقيق ذلك، فلنكن على قدر المسؤولية ولنعلم أن المهمة عظيمة والأمانة كبيرة في أعناقنا، ولنشمر عن سواعدنا واثقين بوعد الله ملتجئين إلى الله وحده ليكرمنا بخلافة إسلامية على منهاج النبوة يعز فيها الإسلام وأهله ويذل فيها الشرك وأهله، وما ذلك على الله بعزيز، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
منير ناصر
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا