السكوت على الظلم وعواقبه
قال تعالى: ((وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) [الأنفال: 25] يقول سيد قطب في تفسير الآية: أي اتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح.
ويقول الحافظ الكلبي الغرناطي في تفسيرها: أي لا تصيب الظالمين، بل تصيب معهم من لم يغير المنكر، ولم ينه عن الظلم، وإن كان لم يظلم.
موضوع قديم حديث لا زلنا نعيش أسبابه ونتائجه بل إنها تتضح أكثر فأكثر، وها هي آثار الفتن التي أصابت المسلمين عامة بسبب سكوتهم عن الظلم أو حتى ضعف استجابتهم للعمل ضد هذا الظلم، وبسبب ترددهم وخوفهم مما يمكن أن يلحق بهم من الأذى، أو خوفهم على أموالهم وأولادهم والذين وصفهم الله سبحانه أيضا بأنهم فتنة حيث قال: ((وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [الأنفال: 28]
فالفتنة إذا عمَّت هلك الكل وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، فهل هناك زمن انتشرت فيه المعاصي وانتشر فيه المنكر فوجب فيه العمل للتغيير مثل هذه الأيام؟! والقادم أخطر، طالما بقينا متقوقعين على أنفسنا خائفين، ولسان حالنا ومقالنا المثل الشعبي: “الباب اللي بجيك منه الريح سده واستريح”، ألا تعلمون أن الريح إذا اشتدت وعصفت فستقلع الأبواب والبيوت وكل من فيها وكل ما حولها فلا تبقي ولا تذر؟!
ونظرة عبر التاريخ إلى المجتمع الإسلامي ترينا كم كان مجتمعا متميزا بعقيدته ونظامه لمّا كان يُحكم بالنظام العادل الآتي من رب عادل، ولمّا لم يسكت المسلمون على أي حاكم صدر منه ظلم وحاسبوه لصالحه وصالحهِم، حينها سار المركب فيهم بأمان وتغلبوا على كل الأخطار التي واجهتهم واستطاعوا أن يتميزوا على كل شعوب العالم، حتى إن الدولة الإسلامية كانت هي الدولة الأولى في العالم والتي لا تنافسها دولة، لكنهم وللأسف لمّا سمحوا لأفكار الكفر والضلال ومَن وراءَها أن يتدخلوا في شؤون المسلمين، انطبق عليهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه النعمان بن بشير في صحيح البخاري: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» فقد كان لسان حالهم يقول: “لا زلنا نحن القائمين على حدود الله بيدنا الحكم، لا زلنا نحن القائدين للسفينة فنحن في أعلاها، ولن يؤثر على سير السفينة من هم في أسفلها حتى ولو كثروا”
وفي المقابل كان الواقعون في حدود الله الذين كان نصيبهم في أسفل السفينة، كانوا يبحثون عمّا يشبعون به غرائزهم ويحققون به أهدافهم ومبتغاهم، ولم يستطيعوا أن يتفاهموا مع من فوقهم لعلوِّ علمهم ومكانتهم، فما كان منهم وهم الذين يزينون الفتنة بأسماء متعددة كالحرية والوطنية والقومية والديمقراطية… إلا أن فكروا في عمل خرق في أسفل السفينة – فهم لا يُسمح لهم بالصعود إلى الأعلى- فأخذتهم المحاولات سنوات طوال حتى خرقوا في السفينة خرقا صغيرا جدا بحيث لم يكترث له الذين مَن فوقهم، وتغافلوا عنه ولم يأخذوا على أيديهم، يقولون: إنما يخرقون في نصيبهم، فما صحوا إلا والسفينة قد أوشكت على الغرق، وأصبح الجهر بالمنكر ظاهرة قلَّ مُنكِروها.
لهذا السبب انقلبت النعمة التي كانوا بها:
• فهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ إِلَيْهِمْ فَيَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ”.
• فكثر فيهم المنكرات والمظالم ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سألت الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت له: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ، وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَث».
• ولم يأبه أكثرهم بما يُكاد للأمة ليل نهار بل يمكن أن يكونوا قد ألفوا المنكرات رغم طاعتهم لله في أمورهم الفردية، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا ظَهَرَ السُّوءُ فِي الْأَرْضِ، أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ بَأْسَهُ». قَالَتْ: وَفِيهِمْ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ».
وإذا أردنا استعراض المظالم التي تعرضت لها الأمة الإسلامية ولا زالت تتعرض لها هذه الأيام في ظل تحييد الحكم بما أنزل الله والرضا بحكم الطواغيت لقلنا إن لها أشكالا وألوانا ولكل منها آثارا تتبعها مثل:
• استعمار عسكري وسياسي وما يتبعهما من خراب وتدمير وقتل وبطش واعتقال وتعذيب ومحاولة ثني العاملين لتغييرها عن عملهم.
• استعمار اقتصادي وما يتبعه من فقر وجوع وحرمان وتكدس للأموال في أيدي قلة من الرأسماليين المتنفذين الجبابرة.
• إعلام قد رُسم له منهج يحقق أهداف الاستعمار ويطيل أمده.
• استعمار ثقافي يتمثل في مناهج دراسية في المدارس والجامعات يجتهد القائمون عليها في حرف المسلمين عن عقيدتهم.
• معاهدات ومواثيق واتفاقيات تحمل في طيات طياتها كل ما يمكن أن يقلب المفاهيم الإسلامية وينفر منها ويبدلها بمفاهيم الكفر والضلال.
• ثم مؤسسات تمويلية تراقب تطبيق الحكومات لبنود الاتفاقيات وجمعيات يطلق عليها اسم “منظمات غير حكومية” تمهد الطريق لها لإيجاد رأي عام لتلك المفاهيم عند الشعوب.
فهل يُعقل أن يعيش المسلمون عامة والواعون فكريا وسياسيا خاصة، في مثل هكذا أجواء ويسكتون؟! ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون؟!
فالله سبحانه وتعالى قد حذّر المسلمين من التراخي في تغيير المنكر في أي صورة كانت، وأمرهم بالوقوف في وجه الظالمين المفسدين، وإلا عمهم جميعا العقاب والعذاب، وإذا دعوه لكشف العذاب عنهم لا يستجيب لهم، فقد حذرهم النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه حين قال: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» رواه الإمام الترمذي عن حذيفة بن اليمان.
فيا أمة الإسلام يا أمة رسول الله اعلموا رحمكم الله أنكم بترككم الظالم وعدم أخذكم على يديه، تكونون قد خالفتم ما جاءت به الرسل، ولم تأبهوا بما حذركم من وقوعه نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ» حديث حسن، أخرجه ابن ماجه ولأنكم هان أمر الله ورسوله عليكم فقد هنتم على الله، ووقع المحذور.
والحمد لله أن هيأ الله للأمة الإسلامية ثلة واعية مخلصة ذات إحساس مرهف، درست سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعمل لإيجاد الدولة الإسلامية، وما لاقاه وصحبه من الأذى والخوف وما قدموا من الأنفس والأموال وهم صابرون، حتى تحولوا من أمة قليلة ضعيفة إلى قوية عزيزة، قال تعالى: ((واذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) [الأنفال: 26]
وها هي هذه الثلة الواعية العاملة لإعادة حكم الله في الأرض، عندما تأملت هذه النقلة الكبيرة العظيمة، وأدركت في يقين وثقة موعود الله لها بالاستخلاف في الأرض، استجابت لنداء الله ورسوله وأخذت تعمل جاهدة على إنكار المنكر وتوجيه الناس وقيادتهم للسير على نهجها وعدم القعود عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بالصراع الفكري والكفاح السياسي، وإنها رغم ما لاقت من صد ومعوقات إلا أنها صمدت فلم تهادن ولم تتملق، لم تجفل ولم تنتكس وتيأس، بل لا زالت وستبقى على نهجها صامدة صابرة حتى تحقيق الهدف واستئناف الحكم بما أنزل الله، لتنجو ومعها المسلمون من عقاب الله الموعود للساكتين القاعدين.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أختكم: راضية