خبر وتعليق ثورة تنعت بـ “سيل من الفوضى” في عيدها!
الخبر:
قال الصحفي المخضرم محمد حسنين هيكل في الحلقة الأخيرة من سلسلة حواراته المتلفزة (مصر أين؟ وإلى أين) على قناة السي بي سي: “الأزمة عندنا جميعاً أننا في 25 يناير تصورنا ما لم يكن فيها، فهي كانت حركة عظيمة جداً لكنها بلا فكرة ولا قيادة، لكن مع انكسار خزان مبارك بما فيه من محتوى وما به من عوالق وشوائب، بدأنا نشعر بالقلق مما نراه وتصورنا أنه سوف يجيء ماء ثوري صاف، لكن انهيار سد مبارك أتى بالإخوان.” (الوادي 2014/1/4) وردد غير مرة في الحوار المطول أن الذي جاء بالإخوان هو هذا السيل من الفوضى والعوالق بعد انكسار خزان مبارك وزحام بقايا أشياء. كما أكد هيكل أن أمريكا والإخوان يخوضان المعركة الأخيرة وأن الشعب المصري في 2013 شعب فقد الثقة في نفسه. وبرر هيكل صعود الفريق السيسي لسدة الحكم بضرورة تجميع القوة والسلطة في يد واحدة؛ لأنه من غير المقبول من وجهة نظره أن تكون السلطة في جانب والقوة في جانب آخر. ووصف ترشح الفريق السيسي “بحل الضرورة” وأن الأمور ستفرض عليه ما لا يرضاه وأن دور الجيش أصبح حيويا ولا بديل له في مصر، وقال هيكل أن بعض الناس يرددون دون تمييز، كلمة «العسكر»، لأن لديهم ما سماه “حساسية سطحية”، تجاه الجيش.
التعليق:
تأتي هذه التصريحات ومصر على مشارف الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير، وفي السياق العام الذي يبرر حكم العسكر ويطرحه كخيار أمثل لحكم البلاد وحمايتها من “التيارات” التي تهدد الأمن والاستقرار. تصريحات تتناسى أن الجيش هو الحاكم الفعلي لمصر منذ ستين عاماً، وأن النظام الذي ظن الناس أنهم خلعوه باقٍ ومتجدد كالحرباء، يتلون لهم أمام أعينهم وتسير البلاد في شدٍّ وجذب بينما هو باقٍ. يتحدث هيكل وكأن مصر حديثة عهد بحكم العسكر ويتناسى أن الثورة قامت لتخلع هذا الحكم من جذوره وتسقط النظام، فإذا بالنظام يساوم الناس على استبدال الزي العسكري بآخر مدني. يبقى النظام الذي يغازلهم بالحديث بينما يهددهم في حياتهم اليومية ويثير الرعب والفوضى إلى أن يسأم الشعب ويرفع راية “حقك علينا يا ريس”، نظامٌ يطرح سراب الديمقراطية تارة ويحكمهم بالنار والحديد تارة أخرى، ثم يخرج متبجحاً ليعلن أن دور الجيش أصبح حيوياً ولا بديل له في مصر لتهدأ هذه الفوضى العارمة التي لحقت بالبلاد بعد سقوط مبارك، وأن الفسيفساء المصرية لا يحكمها إلا قوة وسلطة هي الجيش ومن يمثله، ليترك ثوار الأمس وفرقاء اليوم في حيرة ونقاشات فلسفية معقدة عن الثورة وأهدافها وأحوالها ومآلاتها.
هذه الحيرة تفسر حال الثوار وهم يتأملون أحداث السنوات الثلاث التي مضت منذ رحيل مبارك لتحل ذكرى أخرى يحتفل فيها العسكر بثورة جددت في النظام الحياة ومنحت شيخوخته روح الشباب، بينما يتساءل الثوار علامَ نحتفل؟ أنحتفل بأكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث ارتكبها النظام الانقلابي بذريعة فض اعتصامي رابعة والنهضة وما تلا ذلك من سفك للدماء الزكية بشكل يومي؟ أم تحتفل الثورة بمساجينها من الثوار الذين وقفوا للتنديد بالقتل الوحشي؟ أم ستحتفل بالتسريبات التي تلاحق من لم يجد النظام لهم تهمة لتنشر “دولة القانون” تسجيلات سخيفة تنتهك خصوصيتهم وتلفق لهم الأقاويل؟ هل يحتفل الثوار بالداخلية التي عادت لسابق عهدها في الشر والتنكيل وهتك الأعراض، أم بالإعلام الذي ديدنه الكذب والخداع؟ هل ستحتفل الثورة ببقايا مشرذمة لثوار الأمس ساد بينهم جو التخوين وغلبوا أحقاد الماضي على محاربة الاستبداد؟ نجح النظام في شق صف الثوار بين مهادن ومصالح ومتفرج وبين من ظهر على حقيقته وأظهر علناً أن الحرية عنده تعني الليبرالية بالإكراه، ولا علاج لمن رفض العلمانية سوى القمع ويستحق مبارك وحكم العسكر، وطرح بذلك تناقضات فلسفية متجذرة بين الديمقراطية ومزاعم الليبرالية. انتقل البعض من حملات كاذبون ضد العسكر لرفع شعار “أنا لا أكذب ولكني أتجمل” وأصبحت الحسابات التكتيكية في تبعات النزول في توقيت معين تشل الحركة وتلحق الثوار “بحزب الكنبة”.
إن المتتبع لهذه الثورة يرفض هذه الثمار الهجينة، فما بال أولئك الثوار في الصفوف الأمامية التي ألهمت ثورتهم العالم ورفعوا أصواتها مجلجلة بالحق “الشعب يريد إسقاط النظام”؟! هل يُستبدل بأجواء الثورة ضد القمع هلاوس العمالة والخيانة وعدالة انتقائية وعداء لشعارات وتهم لدمى وعدو افتراضي يثير الذعر ليرتمي الناس في أحضان جنرالات أمريكا؟ أم ترضون بأن يتعمق هذا الشقاق بين الناس فيحدث ما لا يحمد عقباه ويواجه أهل مصر بعضهم بعضا بينما النظام في مأمن ينشر فساده ويضيع حقوقكم؟ هل تقبلون اليوم بما سخرتم منه بالأمس حين حصر مبارك الخيارات بين الاستبداد الذي هو بلاء عظيم، والفوضى التي تشل الحياة، ورفضتم هذا العرض الهزيل لأنكم وقفتم على أرض صلبة في الثامن والعشرين من يناير لتعود السلطة للشعب يمنحها لمن يريد عن بينة ووعي. ملكتم أمركم حين قمتم بالثورة، ثم ما لبثت أن تسربت هذه الروح عبر سيل من المؤامرات والتخاذل، تسربت كحبيبات الرمل الناعم بين أيادٍ ناعسة.
العرض الموجود على الساحة اليوم هو النقيض للثورة، فالثورة كالسيل الجارف تحوي الغث والسمين، ولا بد لها من تصفية وغربلة، ولا بد من تمعن في محاسن هذه المرحلة وغربلة الأمور ليُعلم الصالح من الطالح وليفصل بين الزبد وما ينفع الناس. استقرار الفساد ليس بالخيار اللائق، ولا يوافق عاقل على استبدال التحرر بالأمن أو التخيير بينهما ولا يطرح هذا الخيار إلا مستبد يعرف أن هذا هو القيد المناسب لشعب قهر الخوف من العسكر، ومن فعل ذلك منكم فقد ضيع الاثنين معاً فلم يأمن ولم يتحرر. أفيقوا أيها الأحبة؛ فالمياه الراكدة ليست كلها صالحة للشرب فمنها الآسن ومنها السلسبيل.
﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أم يحيى بنت محمد