مع الحديث الشريف لا تُصَرّوا الإبل ولا الغنم
روى البخاري في صحيحه قال:
حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ”
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ في تفسير هذا الحديث:
(وَلَا تُصَرُّوا): بِضَمِّ أَوَّله وَفَتْح الصَّاد الْمُهْمَلَة وَضَمّ الرَّاء الْمُشَدَّدَة مِنْ صَرَيْت اللَّبَن فِي الضَّرْع إِذَا جَمَعْته، وَظَنَّ بَعْضهمْ أَنَّهُ مِنْ صَرَرْت فَقَيَّدَهُ بِفَتْحِ أَوَّله وَضَمّ ثَانِيه. قَالَ فِي الْفَتْح وَالْأَوَّل أَصَحّ اِنْتَهَى. قَالَ الشَّافِعِيّ: التَّصْرِيَة هِيَ رَبْط أَخْلَاف الشَّاة أَوْ النَّاقَة وَتَرْك حَلْبهَا حَتَّى يَجْتَمِع لَبَنهَا فَيَكْثُر فَيَظُنّ الْمُشْتَرِي أَنَّ ذَلِكَ عَادَتهَا فَيَزِيد فِي ثَمَنهَا لِمَا يَرَى مِنْ كَثْرَة لَبَنهَا. وَأَصْل التَّصْرِيَة حَبْس الْمَاء يُقَال مِنْهُ صَرَيْت الْمَاء إِذَا حَبَسْته. قَالَ أَبُو عُبَيْد وَأَكْثَر أَهْل اللُّغَة: التَّصْرِيَة حَبْس اللَّبَن فِي الضَّرْع حَتَّى يَجْتَمِع
(فَمَنْ اِبْتَاعَهَا): أَيْ اِشْتَرَى الْإِبِل أَوْ الْغَنَم الْمُصَرَّاة.
(بَعْد ذَلِكَ): أَيْ بَعْدَمَا ذَكَرَ مِنْ التَّصْرِيَة
(فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ): أَيْ الرَّأْيَيْنِ مِنْ الْإِمْسَاك وَالرَّدّ
(بَعْد أَنْ يَحْلُبهَا): بِضَمِّ اللَّام. (أَمْسَكَهَا): أَيْ عَلَى مِلْكه
(وَإِنْ سَخِطَهَا): بِكَسْرِ الْمُعْجَمَة أَيْ كَرِهَهَا
(وَصَاعًا مِنْ تَمْر): أَيْ مَعَ صَاع مِنْ تَمْر.
وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيث الْجُمْهُور.
قَالَ فِي الْفَتْح: وَأَفْتَى بِهِ اِبْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة وَلَا مُخَالِف لَهُمَا فِي الصَّحَابَة، وَقَالَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَده، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْن أَنْ يَكُون اللَّبَن الَّذِي اُحْتُلِبَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَلَا بَيْن أَنْ يَكُون التَّمْر قُوت تِلْكَ الْبَلَد أَمْ لَا، وَخَالَفَ فِي أَصْل الْمَسْأَلَة أَكْثَر الْحَنَفِيَّة وَفِي فُرُوعهَا آخَرُونَ اِنْتَهَى. وَقَدْ اِعْتَذَرَ الْحَنَفِيَّة عَنْ حَدِيث الْمُصَرَّاة بِأَعْذَارٍ بَسَطَهَا الْحَافِظ فِي الْفَتْح وَأَجَابَ عَنْ كُلّ مِنْهَا.
قُلْت: أَخَذَ الْحَنَفِيَّة فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة بِالْقِيَاسِ، وَأَنْتَ تَعْلَم أَنَّ الْقِيَاس فِي قَابِلَة النَّصّ فَاسِد الِاعْتِبَار فَلَا يُعْتَبَر بِهِ وَاَللَّه أَعْلَم.
البيع من المعاملات التي لا يستغني عنها الناس, فهو يمارَس يومياً في الأسواق عادة وخارج الأسواق بعض الأحيان, وإن مجال الخلاف والشقاق وارد في عقود البيع, إن لم تراعَ فيها أحكام الشرع الحنيف, لأن كلاً من البائع والمشتري يحاول أن يخرج رابحاً من الصفقة, ومحققا ما رجاه منها …….المشتري يريد الحصول على السلعة بأعلى المواصفات وأقل الأسعار, في حين يعرض البائع سلعته ويقدمها للناس بأفضل صورة لتحظى بالتقدير من قبل المشترين فيجني من ورائها أعلى الأرباح.
وكل هذا معقول ومقبول منهما ما داما سعيا لتحقيق ما يريدان بالطريقة الشرعية واستخدما الوسائل والأساليب المباحة.
لكن البعض لا يكتفي بالطريقة الشرعية في الحصول على الصفقة التي يبغي …..ولا يبالي في استخدام الأساليب الملتوية في تحقيق أغراضه ….من مثل التدليس والغش والخداع
ومن الأساليب الملتوية التي قد يمارسها كل من المشتري والبائع ….والتي نص عليها حديثنا لهذا اليوم فنهى عنها رسولنا صلى الله عليه وسلم:
أن يُصَر البائع الماشية ويمتنع عن حلبها حتى يتجمع اللبن في الضرع فيبدو كبيراً ليوهم المشترين أنها غزيرة اللبن فيدفعون مقابلها ثمناً أعلى مما تستحق. والصفقة في هذه المعاملة وإن انعقدت شرعا إلا أن البائع قد مارس فيها التدليس على المشتري ووقع بالحرام, أما المدلَّس عليه فقد أعطاه الشرع الخيار بين أن يمضي الصفقة أو أن يلغيها ويعيد الماشية التي اشتراها ويعيد معها صاعاً من تمر ثمن الحليب الذي احتلبه منها عندما كانت بحوزته.
التدليس هو كتم البائع العيب في السلعة عن المشتري مع علمه به, أو إخباره عن العيب لكن بطريقة توهم المشتري بعدمه, أو تغطية السلعة بما يظهرها كلها حسنة …..وهذا كله حرام لأنه خداع للمشتري وتغرير به.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “المسلم أخو المسلم, ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بيّنه له”
والتدليس لا يقع من البائع فقط بل إن المشتري قد يدلس أيضاً وذلك بأن يزيّف النقود أو يخفي ما بها من زيف مع علمه به, وهذا تدليس ولا شك.
والتدليس بكل أشكاله حرام لأنه خداع وغش, وهو ليس من وسائل التملك الشرعية لذا فإن ما يحاز من مال بواسطته لا يكون ملكاً مشروعاً بل هو مال حرام ومال سحت, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت, النار أولى به”
ورسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: “من غشنا فليس منا”
ومن الجدير ذكره أن مجرد وجود العيب في السلعة أو حصول التدليس يثبت الخيار للمدلَّس عليه …..سواء علمه الطرف الآخر أم لم يعلمه …..فلا يشترط علم البائع بالتدليس أو بوجود العيب في السلعة حتى يثبت الخيار للمشتري بالقبول أو الرد …..كما لا يشترط علم المشتري بزيف العملة حتى يثبت الخيار للبائع بالقبول أو الرد …. فالأحاديث التي أثبتت الخيار للمدلَّس عليه جاءت عامة ولم تشترط علم المدلِّس بالعيب أو التدليس لإثبات حق الخيار للمدلَّس عليه، بل أعطته الخيار بمجرد حصول التدليس بغض النظر أعلم الطرف الآخر به أم لم يعلم.
إخواني التجار: هلا استحضرتم عند كل صفقة تعقدونها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا, فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما, وإن كتما وكذبا مُحِقت بركة بيعهما”
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.