نداءات القرآن الكريم للذين آمنوا ح50 النداء الرابع والعشرون بيان بعض الأحكام المتعلقة بالجهاد, والأمر بالتثبت من كفر الذي يراد قتله
(يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ). (النساء: 94)
الحمد لله الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، ومنهاجا للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وآله وصحبه الطيبين الطاهرين, والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين, واجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نصغي وإياكم إلى نداء من نداءات الحق جل وعلا للذين آمنوا, ومع النداء الرابع والعشرين نتناول فيه الآية الكريمة الرابعة والتسعين من سورة النساء التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا). نقول وبالله التوفيق:
أيها المؤمنون:
في الآية الكريمة التي استمعنا إليها وإياكم يخاطب الله عباده المؤمنين قائلا: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) أي إذا سافرتم في الجهاد لغزو الأعداء فتثبتوا, ولا تتعجلوا في القتل, حتى يتبين المؤمن من الكافر، (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) أي لا تقولوا لمن حياكم بتحية الإسلام لست مؤمنا, وإنما قلت هذا خوفا من القتل فتقتلوه طمعا بماله وغنيمته التي هي عرض زائل من أعراض الدنيا الزائلة، (فعند الله مغانم كثيرة) أي فعند الله ما هو خير من ذلك وهو ما أعده الله لكم من جزيل الثواب والنعيم المقيم في جنات الخلد، (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا) أي كذلك كنتم كفارا فهداكم للإسلام ومن عليكم بالإيمان فتبينوا أن تقتلوا مؤمنا، (إن الله كان بما تعملون خبيرا) أي مطلعا على أعمالكم فيجازيكم عليها.
أيها المؤمنون:
روى ابن اسحق عن أبي حدرد عن أبيه قال: “بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أضم, وهو مكان في الجزيرة العربية, في نفر من المسلمين منهم أبو قتادة الحارث بن ربعي, ومحلم بن جنادة بن قيس, فخرجنا حتى أتينا بطن أضم فمر بنا “عامر بن الأخبط الأشجعي” على قعود له ومعه متاع له, فسلم علينا بتحية الإسلام وعرفنا بأنه مسلم, فأمسكنا عنه, لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله, إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس, والثيب الزاني, والمارق لدينه, التارك للجماعة”.
أيها المؤمنون:
وحمل “محلم بن جثامة” على “عامر بن الأخبط” فقتله لشيء كان بينه وبينه, وأخذ بعيره ومتاعه، فقال له رجل من أصحابه: “أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم”! فلما قدموا على رسول الله أخبروه، وكان الوقت ظهرا, ثم قام إلى ظل شجرة فقعد فيه, فقام إليه “عيينة بن بدر” فطالب بدم “عامر بن الأخبط” فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيرا، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة؟”. وهذه هي الدية الشرعية, الدية المحمدية كما يقولون, فقال عيينة ابن بدر: والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحزن ما أذاق نسائي! ثم أعاد النبي مقالته الأولى فرفضوا, فلم يزل النبي بهم حتى رضوا بالدية. قال قوم محلم بعضهم لبعض: اذهبوا بمحلم إلى رسول الله حتى يستغفر له, امتثالا لقول الله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما). (النساء 64) فلما ذهبوا به, وقام محلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يستغفر له, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم لا تغفر لمحلم! اللهم لا تغفر لمحلم! اللهم لا تغفر لمحلم! فقام محلم يتلقى دموعه بطرف ثوبه. قال الحسن البصري: فوالله ما مكث محلم إلا سبعا حتى مات, فدفنوه فلفظته الأرض! ثم دفنوه فلفظته الأرض! ثم دفنوه فلفظته الأرض! فوضعوا عليه من الحجارة حتى واروه! فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: “إن الأرض لتقبل من هو شر من صاحبكم, ولكن الله أراد أن يعظكم من حرمتكم”.
إن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة, بل إنها أعظم من الدنيا بأجمعها, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم”، وقال عليه الصلاة والسلام: “لأن تهدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله من إهراق دم امرئ مسلم”، وذلك لأن الكعبة إذا هدمت, أعيد بناؤها, أما المؤمن إذا أزهقت روحه فلا يستطيع أحد من المخلوقين أن يعيد روحه إليه.
أيها المؤمنون:
وشبيه بقصة محلم ما حصل مع الصحابي أسامة الذي قتل رجلا بعد أن قال: لا إله إلا الله, فقال له النبي: “يا أسامة, من لك بلا إله إلا الله؟ قال أسامة: يا رسول الله, قالها تعوذا من القتل، فقال صلى الله عليه وسلم: “فمن لك بلا إله إلا الله؟ من لك بلا إله إلا الله؟ من لك بلا إله إلا الله؟”. قال أسامة: فو الذي بعثه بالحق, ما زال يرددها حتى تمنيت أن ما مضى من إسلامي لم يكن, وأني أسلمت يومئذ ولم أقتله. وأضاف أسامة قائلا: إني أعطي الله عهدا ألا أقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله أبدا .
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام وأن يعز الإسلام بنا وأن يكرمنا بنصره وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة في القريب العاجل وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها إنه ولي ذلك والقادر عليه نشكركم لحسن استماعكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد أحمد النادي