نداءات القرآن الكريم ح51 الأمر بالقيام بالقسط ج1
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا). (النساء 135)
الحمد لله الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، ومنهاجا للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وآله وصحبه الطيبين الطاهرين, والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين, واجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نصغي وإياكم إلى نداء من نداءات الحق جل وعلا للذين آمنوا, ومع النداء الخامس والعشرين نتناول الآية الكريمة الخامسة والثلاثين بعد المائة من سورة النساء التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا). نقول وبالله التوفيق:
أيها المؤمنون:
يقول صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: “إنه نداء للذين آمنوا, نداء لهم بصفتهم الجديدة, وهي صفتهم الفريدة, صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى وولدوا ميلادا آخر ولدت أرواحهم وولدت تصوراتهم وولدت مبادئهم وأهدافهم، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم، أمانة القوامة على البشرية، والحكم بين الناس بالعدل، ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه: (يا أيها الذين آمنوا). فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى، وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى، وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم تسبق التكليف الشاق الثقيل: (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما).
إنها أمانة القيام بالقسط، بالقسط على إطلاقه في كل حال وفي كل مجال, القسط الذي يمنع البغي والظلم في الأرض والذي يكفل العدل بين الناس والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين، ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين كما رأينا في قصة اليهودي، ويتساوى الأقارب والأباعد, ويتساوى الأصدقاء والأعداء, ويتساوى الأغنياء والفقراء، (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) حسبة لله وتعاملا مباشرا معه لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة، ولا تعاملا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية, ولكن شهادة لله، وتعاملا مع الله, وتجردا من كل ميل، ومن كل هوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار، (ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).
أيها المؤمنون:
وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها، وفي وجه عواطفها، تجاه ذاتها أولا، وتجاه الوالدين والأقربين ثانيا، وهي محاولة شاقة، أشق كثيرا من نطقها باللسان، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل، إن مزاولتها عمليا شيء آخر غير إدراكها عقليا، ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعيا .. ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة؛ لأنها لا بد أن توجد, لا بد أن توجد في الأرض هذه القاعدة، ولا بد أن يقيمها ناس من البشر، ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية حين يكون المشهود له أو عليه فقيرا، تشفق النفس من شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه، أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية. وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته. أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده! وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع، والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات، وحب الوالدين والأقربين (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما)، وهي محاولة شاقة، ولا نفتأ نكرر أنها محاولة شاقة، وأن الإسلام حين دفع نفوس المؤمنين في عالم الواقع إلى هذه الذروة، التي تشهد بها تجارب الواقع التي وعاها التاريخ كان ينشئ معجزة حقيقية في عالم البشرية, معجزة لا تقع إلا في ظل هذا المنهج الإلهي العظيم القويم (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)، والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها، حب الذات هوى, وحب الأهل والأقربين هوى, والعطف على الفقير في موطن الشهادة والحكم هوى, ومجاملة الغني هوى, ومضارته هوى, والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن في موضع الشهادة والحكم هوى, وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين في موطن الشهادة والحكم هوى، وأهواء شتى متعددة الصنوف والألوان، كلها مما ينهى الله الذين آمنوا عن التأثر بها، والعدول عن الحق, والصدق تحت تأثيرها”. (لم ينته الاقتباس).
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام وأن يعز الإسلام بنا وأن يكرمنا بنصره وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة في القريب العاجل وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها إنه ولي ذلك والقادر عليه نشكركم لحسن استماعكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد أحمد النادي