مَن يحرّر الأمة ويُحدِث فيها نهضة؟
بدأت الأمة في عمومها بالرجوع إلى الإسلام بعد عقود من التيه والدوران في حلقة مفرغة وراء شعارات تظن أنها من الإسلام، وبدأت تتحسّس طريق النهضة.
وحتى تنهض بعد هذه الكبوة لا بد لها أن ترجع إلى وضعها الطبيعي يوم أن كانت متميزة عن باقي الأمم بنظام الحكم في الإسلام الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم حين أقام الدولة في المدينة، دولةٌ أفرزت طرازا متميزا من العيش تجلّت فيه الإنسانية والرفعة والعفة وعلاقات متميزة مع الدول المجاورة لها. ولا يمكن لها ذلك إلاّ بعد خلع ثوب العلمانية وكل ما هو مأخوذ من غير الإسلام. فالوضع الذي تعيشه الأمة مليء بالمآسي والفقر والحروب وتسلُّط الغرب وهي تملك كلّ مقومات الدولة العظمى والأمة الراقية مِن مبدأ مصدره الوحي وعدد سكان جلّهم شباب وكفاءات علمية وثروات لا حصر لها.
والسؤال الذي يطرح نفسه، مَن مِن الأطراف المكوِّنة للمجتمع يستطيع تحرير الأمة وإحداث نهضة فيها؟ أهُم الأفراد أم الدولة أم الأمة ككلّ أم الأحزاب؟
وهنا التفصيل ليس مقامه ولكن بعجالة:
ـ الفرد لا يستطيع لأن تأثيره محدود وبذهابه يذهب كل شيء.
ـ الأمة كيان مجتمعي ينفعل بالأفكار وتقع عليه الأحداث.
ـ الدولة جهاز تنفيذي لقناعات الناس وقد تُنفذ ما لا يرغب فيه الناس إن كانت دولة متسلطة كما هو حال دولنا الآن.
فلم تبق إلا الأحزاب والتي هي فعلا تستطيع إحداث نهضة في الأمة. فالنهضة التي قام عليها الاتحاد السوفياتي أحدثها الحزب الشيوعي لمّا قامت الثورة على القياصرة. والنهضة التي قامت في أوروبا أحدثتها الأحزاب الليبرالية العلمانية لمّا قامت الثورة على النظام الملكي الفيودالي. والنهضة في جزيرة العرب أحدثتها كتلة الرسول صلى الله عليه وسلم وحزبُه لمّا قامت ثورة فكرية في المدينة وأصبح الرأي العام لصالح الإسلام واستمرّ الحكم على هذا الأساس في أمة الإسلام إلى سقوط الخلافة. وبالتالي فإن الأمة الآن حتى تنهض لا بد لها من قيادة حزبية وعلى أساس الإسلام. وإذا تعينت الأحزاب، فما هو الحزب الجدير بهذه المهمّة؟
الأحزاب العلمانية الموجودة الآن في بلاد المسلمين ما كان لها أن تُوجَد لأنها مناقضة لعقيدة الأمة وتحارب الإسلام. وهي ليست أحزاباً حقيقية لأنها قائمة على شعارات وأفكار فرعية غربية لا على فكر أساسي أو مبدأ، وهي بتكوين وتمويل السفارات الغربية. فلا يمكن أن تُحدث نهضة في الأمة. أما الحركات الإسلامية وإن رفعت شعارات إسلامية، فهي حركات دَعَويّة خيرية لا ترتقي إلى أحزاب ولم تتبنّ ثقافة إسلامية تجمع أفرادَها، ولم تفصّل هذا الشعار الإسلامي الذي رفعته ولم تطرح مشروع دولة، بل لم تكن تسعى إلى الحكم وإنما إلى التعايش مع الأنظمة ومحاولة إصلاحها. وخلطت أفكارا إسلامية بأخرى غربية. ولمّا قامت الثورات سمّت نفسها أحزابا، ومنها مَن لم يشارك في الثورة أصلا مثل الإخوان المسلمين في مصر. وعندما وقعت انتخابات، كان من الطبيعي أن ينتخبها الناس على أساس خلفيتها الإسلامية، وحين وصلت إلى الحكم رأينا في تونس ومصر كيف تنصّلت هذه “الأحزاب” من كل ما له علاقة بالإسلام ووضعت دساتير علمانية فيها تعدٍّ على حقوق الله وحقوق الناس وخزي في الدنيا وعذاب في الآخرة. وقد كانت الطريقة في أخذ الحكم خاطئة وكانت الحجج في عدم سنّ دستور مأخوذ من الإسلام أقبح من الذنب المرتكَب حيث كانت حجة “حزب النهضة” لمَّ الشمل والتوافق والابتعاد عما هو مختلَف فيه؛ مع أن كتابة الدستور العلماني أخذ ثلاث سنوات لكثرة الاختلافات ولم تكن كتابته من الأوّل بل هو تنقيح للدستور الذي وضعته فرنسا سنة 1959. وهذه “الأحزاب” لا تُسعِف أيضا الأمة في إحداث نهضة.
وبما أن النهضة هي إقامة الحكم على فكر أساسي أو مبدأ يحوي نظاما متكاملا، ومبدأ الأمة هو الإسلام، أصبحت المهمة ملقاة على الحزب السياسي القائم على الإسلام والإسلام فقط بكل التفاصيل وبكل الأدلة لإحداث هذه النهضة. وأصبحت الأمة مطالبة بالالتفاف حول هذا الحزب والاستجابة له. وقد وُجد هذا الحزب بفضل الله وحمده منذ منتصف القرن الماضي، حزب مبدئي لم يغيّر رغم الصعوبات والعراقيل، يقتدي بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في التغيير، يكافح الأنظمة ويكشف مخططات الاستعمار ويتبنى مصالح الأمة. سيرة أفراده معروفة لدى الأمة، مطارَد من الأنظمة في العالم الإسلامي ومن الغرب إلا أنه ثابت لأن الغاية هي القيام بالفرض وغاية الغايات هي مرضاة الله، ولأن الرابط بين أفراده هي العقيدة الإسلامية وما تبنّى منها الحزب من ثقافة وليست مصالح أو أغراضاً دنيوية.
هذا الحزب هو حزب التحرير، وإلى حد الآن لم تستطع أية جهة ردّ طرحه الفكري لأنه الإسلام الصافي لا “المعتدل” ولا “الوسطي” ولا ما يشبه ذلك. وأقصى ما قامت به أبواق الأنظمة هو محاولة التشويه والافتراء، وما نالت هذه الأبواق إلا من نفسها وارتدّت عليها افتراءاتها.
والحمد لله أصبحت الأمة تعرف سياسة هذا الحزب وبرنامجه وشكل الدولة التي يعمل لها مع الأمة والتي هي فرض من الله، وتعرف كيفية إدارة المصالح فيها وكيفية التصرف في الثروات بعد استرجاع السيادة عليها. إلا أن هناك قسماً من الأمة لا يزال صامتا أو مترددا في وقوفه مع هذا الحزب خشية غضب الأنظمة وبطشها والتضييق عليه في الأرزاق.
لقد حان الوقت للشعوب الإسلامية التي أيقظتْها هذه الثورات أن تتبرّأ من “الأحزاب” العلمانية والإسلامية “المعتدلة” أو “الوسطية” والعلمانية بمرجعية إسلامية وتعطي قيادتها للحزب المبدئي القائم على الإسلام. والغرب يعرف جيدا أن نهضة المسلمين تكون على أساس الإسلام وبواسطة حزب سياسي، ولذلك حارب هو وأعوانه في بلاد المسلمين الإسلام السياسي وفكرة الدولة الإسلامية أو الخلافة والعاملين لها؛ وحارب فكرة الحزبية واعتبر مَن يسعى لإيصال الإسلام إلى الحكم متطرفاً يجب محاربته كما هو حاصل في سوريا الآن.
ووُجود هذا الحزب لم تكن رغبة جامحة، بل كان استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ولم تكن طريقته ارتجالية تتبدل مع الأحوال والظروف، وإنما شرعية ثابتة اقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم. نسأل الله الثبات على الحق ونسأله تبصرة الأمة وأن يفتح بينها وبين الحزب، وخاصة أهل النصرة منها، فتحا يفضي إلى نهضة تُرفَعُ فيها راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ليس فوق ربوع البلاد الإسلامية فحسب، وإنما على العالم كله.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
محمد بوعزيزي